المنجرة: سيمياء الحرب القادمة

22 يونيو 2014
+ الخط -

يأخذنا كتاب "عولمة العولمة" (1999) للمفكر المغربي المهدي المنجرة (1933-2014)، إلى مراحل تطوّر الاستعمار الجديد، ومراحل تطوّر العلاقة بين الشمال والجنوب، مرتكزاً في عمله على انهيار منظومة القانون الدولي وخضوعها لسيطرة القوى الاستعمارية الكبرى التي أدت إلى السيطرة على دول العالم الثالث.

يسعى الكتاب الذي يتضمن مداخلة ألقاها المهدي المنجرة في "ملتقى جمعية الدراسات السياسية"، في المملكة المتحدة عام 1999، وأربعة حوارات نُشِرت في الصحف والمجلات العربية؛ إلى توصيف أدوات الهيمنة الفكرية التي يستخدمها الشمال في سبيل سيطرته على الجنوب، معتمداً في ذلك على السلطة السياسية الحاكمة. وعندما يتحدث المنجرة فيه عن الشمال، يقصد الغرب عموماً، والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، بينما يعني بالجنوب دول العالم الثالث عموماً، والدول العربية خصوصاً.

يبدأ "المنجرة" محاضرته في الحديث عن "ميثاق الأمم المتحدة" الذي يرى بأنه أصبح وثيقة غريبة صالحة لأغراض البحث في التاريخ السياسي، نتيجة عدم التزام قوى ما بعد الاستعمار، أو تلك التي يطلق عليها اسم "الاستعمار البعدي"، بالقوانين والأنظمة الناظمة لها. إذ أن "الاستعمار البعدي" نشأ في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال سيطرة القوى العظمى على الدول الصغرى عن طريق الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات، التي استطاعت أن تفرض هيمنتها عبر التكنولوجيا الحديثة والنظام الاقتصادي الجديد ووسائل الإعلام.

وفي هذا السياق، يرى المنجرة أن الاستعمار الجديد ليس بحاجة إلى قوات الجيش من أجل فرض السيطرة نظراً لوجود أولئك "المتعاونين الراضين من بين المجموعات الحاكمة، وبعض المرتزقة من المثقفين" الذين يدركون أن وجودهم مرتبط بوجود المستعمر الجديد، فيمهّدون له الطريق للسيطرة على الشعوب. ويؤكد المفكّر أن الحرب المقبلة ستكون ذات "طبيعة سيميائية"، من خلال فرض المفاهيم واللغة في سبيل بسط السيطرة على العالم.

أما في الحوارات الأربعة الحاضرة في الكتاب فيتحدث المنجرة بشكلٍ مفصّل عن ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية، مؤكداً أن التاريخ البشري دخل مرحلة جديدة من مراحل التطوّر المعرفي، ومتسائلاً عن كيفية تعامل مؤسسات القرن التاسع عشر مع هذه الثورة المعرفية. وهو ما يجعلنا نلاحظ كيف أن أميركا قامت ببناء منظومتها السياسية معتمدةً على الثورة التكنولوجية، وما يؤكده المنجرة في قوله إن "الإستراتيجي، في الوقت الراهن، لا يكمن في عدد الأسلحة أو الوجود العسكري عبر القواعد في الأرض أو البحر، بقدر ما يكمن في امتلاك 'السلطة الناعمة'".

وإذا ما أردنا تحديد "السلطة الناعمة" كمصطلح، لا بد من قراءة ما كتبه "ناي أوينز" عنها: "القدرة على بلوغ نتائج محددة عن طريق الاستقطاب، دونما حاجة إلى اللجوء إلى الترهيب".

تبدو فكرة اختلال الموازين الضابطة للعلاقات الدولية وارتباط العولمة في هذه المنظومة من أكثر الأمور التي يحاول المنجرة التنبيه لها وتأكيدها. إذ يرى أن أميركا تنفق مبالغ هائلة من أجل استمرارية بسط سيطرتها على هذه المنظومة، لأنها الضامن الوحيد لبقائها وتحكّمها في مصير الكرة الأرضية وشعوبها. فما تم التأسيس له في قرنٍ واحد "حطمته الحوافر العسكرية الأميركية في العقد الأخير من القرن العشرين"، وهو ما أدى إلى "تفريغ الميدان القانوني والشرعي من المعايير الإنسانية، وتحويل القانون الدولي إلى وعاء شرعي لمحتوى غير شرعي".

ويؤكد صاحب "الحرب الحضارية الأولى" أن مسلسل الحروب الحضارية سيستمر، لكنه سيأخذ شكلاً آخر متمثلاً بكونها حروباً حضارية داخل الحدود، ولن تكون حروباً لها شكل الفتنة بقدر ما ستكون حروباً من أجل الدفاع "عن كرامة الوجود داخل المجموعة". فالمنظومة الأميركية الحالية تسعى إلى احتكار العالم ضمن معايير القوة، ولذلك تقوم ببناء آليات جديدة لمحاربة العالم وفرض هيمنتها.

يتخذ "المنجرة" من حرب العراق نموذجاً ليؤكد ما قاله في حواراته السابقة، عن طرق ووسائل بسط الهيمنة الأميركية على دول العالم الثالث، ويقصد حرب العراق الثانية (1991) التي يرى أنها كانت بداية "الحرب الحضارية" التي يشنها الشمال ضد الجنوب، والتي تمثلّت أبرز مظاهرها من خلال "سن قانون سياسة التدخل السريع في الشؤون الداخلية لدول العالم الثالث، لمنع أي محاولة لانبثاق تغيير جذري". وهو ما يدل على أن مصالح القوى المحلية تشبه تماماً مصالح الاستعمار الجديد، من هنا اعتماد هذا الاستعمار على الأنظمة العربية مثلاً في فرض هيمنته أكثر من اعتماده على الجيوش. فالعالم في نظره يعيش اليوم مرحلة "حرب قيم، ومن يستطيع أن يفرض قيمه يكون الأقوى حضارياً".

وهذا ما جعل المنجرة يفقد ثقته في القرن الحادي والعشرين معتبراً أنه أفق زمني حُددت شروطه وأُسست له حضارة أخرى بهدف إنتاج مشاريعها، مؤكداً أن مرحلة التحول والتغيير التي يمكن أن تمر بها المجتمعات العربية تعتمد على ثلاث سيناريوهات: "سيناريو الاستقرار والاستمرار"، "سيناريو الإصلاح" الذي تعطل نظراً إلى استمرار السيناريو الأول، وسيناريو "التغيير الجذري أو المواجهة أو التحولات الكبرى والعميقة" الذي يؤكده المفكّر ولا يرى مستقبلاً للدول العربية إلا في إطاره، نظراً إلى صعوبة تحقيق السيناريوهين السابقين في ظل الوضع الحالي. ولعل ما جرى ويجري في الواقع العربي، من انتفاضات وثورات، يؤكد قراءة المنجرة، فنحن عملياً الآن في خضمّ فصول هذا السيناريو.

ويرى المنجرة في النهاية بأنه بينما يحاول الجنوب الاقتراب من الشمال رغبةً منه في التعرّف إلى حضارته وثقافته، لا يسعى الشمال إلى أي تقرّب منه لأنه يعتقد أن "الجنوب الضعيف والفقير ليس من حقه أن يعكس قيمه وثقافاته وحضاراته، بل هو دوماً في حاجة إلى الشمال إن أراد الاستمرار في الحياة".

دلالات
المساهمون