المنتفعون من التاريخ... محمد علي الذي قتل الجبرتي

06 نوفمبر 2019
+ الخط -
يبدو أن القضاء على المعارضين هو سنة الحياة لدى كل حاكم أراد الحياة، لم تكن المرة الأولى التي ينفذ فيها محمد علي باشا "أمر الله" في معارضيه، منذ مذبحة القلعة التي دبرها ليقضي تماماً على أي واحد يسعى، أو يفكر أن يسعى، ليصل إلى حكم مصر أو يهيج الناس عليه إذا خانه القدر.

وحدهم الذين عرفهم الجميع بأنهم الطامعون دوماً في السلطة هم المماليك، وذلك ما شهد به التاريخ عليهم من أحداث، ولعل التاريخ لم يكن شاهد زور عندما قام طلل الدولة البائدة من المماليك بمساعدة محمد علي للوصول إلى حكم مصر مؤسساً حسب ما قاله تاريخ مصر الحديثة وتاريخها المعاصر، شاملاً نهضة عامة في المجال الاقتصادي والتعليمي مما غيّر معالم الماضي وما نكسته دولة المماليك والإنكليز.

ولكن تاجر الدخان المقدوني عرف منذ البداية كيف يدير حيلته التي قادته ليصل إلى حكم مصر، فبدأ أولا بجمع الناس حوله وإعطائهم الوعود، واستطاع أن يشحن نواياهم لتأييده، وبذلك بايعه أعيان البلاد ليكون والياً على مصر.


وبعدها قدر أن يكسر عادة الدولة العثمانية في تولية الولاة التي كانت لا تتيح للوالي غير عامين فقط لحكم البلاد، وذلك لأن الدولة العثمانية كانت تخاف أن يحشد الوالي في أي دولة تتبعها الناس للاستقلال وإزالة قبضة الأناضول عنها.

وحدث ما كان في البال، ولكن ذلك بعد خطة داهية من محمد على باشا، فقام في بداية الأمر بمساعدة الجيش العثماني في حروبه ضد المتمردين اليونانيين في المورة ثم أرسل قواته لتخوض الحرب مع العثمانيين في الجزيرة العربية ضد الوهابيين.

ثم بعد ذلك بدأ يجني ما زرعه في سنين مساعدته للدولة العثمانية، فقام بتوسيع حدود دولته فضم السودان إليه وحاوطت قواته الشام وأخضعها لأمره، وبهذا أقام قوة ضاربة تعبث في الفناء الخلفي للدولة العثمانية، آمراً الجيش بالتحرك لإسقاط الدولة العثمانية، ولكن توقفت إنجازات محمد علي الحربية عند هذا الحد، بعد تدخل الدول الأجنبية خوفاً على مصالحها مع العثمانيين لكي يتخلى محمد علي عن بعض الأراضي التي كانت في قبضته، ويقيم دولته باستقلاله فعلياً عن الدولة العثمانية، ولكن شكلياً تابع لها.

ثم بدأ محمد التنمية في المجالات الأساسية كالزراعة والصناعة والتجارة التي تساعد أي دولة مهما كانت بالتطور في دنيا الاقتصاد، ولم يكتف بما بدأه من أفكار داهية وحيل توحي دوماً بذكائه، لكن لم نكن نعلم أن حاكم مصر الحديثة هو الأستاذ لكل من جاء بعده.

ولم نكن أيضاً نعرف أنه خبير في مجال البروباغندا والدعاية، وعلى الرغم من عدم وجود إعلاميي الحاضر ممن يجيدون الدق على الطبول وعزف سمفونية إنجازات الحاكم، إلا أنه هو الذي كان يعزف ألحانه الخاصة، فقام بجمع المؤرخين ليكتبوا تاريخ مصر الحديثة على أنه هو الذي أنشأ نهضتها، وهو الذي أشاع في الناس كونه "مؤسس مصر الحديثة"، من الممكن أنه هو سبب نهضة مصر بعد عبث المماليك، وأنه ساعد في قيامها بعد ركودها الاقتصادي، ولكن من المؤكد أن ما فعله محمد علي ليس كما قرأه التاريخ علينا من أخبار العوام.

وهنا نقف عند مذبحة القلعة التي يعرفها الجميع وفعلها محمد علي للقضاء على أي يد تموج في الخفاء.. وسنطوي الكلامَ عنها. لكن الحادثة الأخرى التي تستحق الوقوف عندها هي "من الذي قتل الجبرتي؟!".. من غلبه الشغف بالاطلاع على التاريخ من المؤكد أنه سيصادف هذا الاسم "عبد الرحمن الجبرتي"، كاتب "تاريخ الجبرتي".. لكن هل بالفعل أكمل كتابة تاريخه؟

الباشا الكبير قائم في قلعته يريد أن يحاوط الجبرتي الذي كان يسعى متخبطاً في شوارع القاهرة، إذا هرب من الفرنسيين، ولما اختبأ من الإنكشارية، كشف الأرناؤوط مكانه فكان محمد علي يريد أن يمسك بزمام المؤرخ العاصي، لكي يكتب أن محمد علي هو أعظم من حكم مصر، ولكن الجبرتي لم يستسلم لذلك حتى سقط قلمه بعدما ظل يتلوى من السم الذي دسه له الباشا الكبير.

من الواضح من خلال شهادة التاريخ أن محمد علي كان قدوة من خلفوه، ويبدو أن جيناته بعده امتدت لأبعد العصور، وتظل أحداث الماضي مستترة وراء ألسنة الدهاة.. لسنا واثقين بما قاله التاريخ، لكن نقف عنده لنفكر.. فكيف لنا أن نثق بما كتبناه بأيدينا؟
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.