فرضت قوات الحكومة العراقية سيطرتها على أكثر من 80 بالمائة من المناطق المتنازع عليها مع أربيل، فيما يتوقع أن تعود البشمركة الكردية إلى ما يُعرف بالخط الأزرق الذي كانت عليه قبل دخول تنظيم "داعش" إلى العراق عام 2014. ويمكن وصف هذا التراجع بأنه استسلام تام لرئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، الذي أصدر لقواته أوامر الانسحاب من تلك المناطق التي حررتها أربيل بدعم أميركي خلال السنوات الماضية من سيطرة "داعش"، ووصفها في أحد خطاباته بأنها "حدود الدم لإقليم كردستان" وأن البشمركة قدمت فيها "أكثر من 25 ألف قتيل وجريح لتحريرها". ووفقاً لمسؤولين عراقيين بارزين في بغداد، فإن بغداد ستكمل فرض سيطرتها قبل حلول مساء اليوم (الأربعاء) على جميع المناطق المتنازع عليها في كل من نينوى وديالى وصلاح الدين وكركوك، وإعادة قوات البشمركة إلى الحدود التي كانت مقررة في الدستور والتي رسمت بموجبها حدود الإقليم بمساحة 50 ألف كيلومتر فقط من أصل مجموع مساحة العراق البالغة نحو 450 ألف كيلومتر.
وخصصت بغداد لهذه المهمة 42 ألف عنصر من قوات الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية والشرطة المحلية ووحدات التدخل السريع وقوات المهام الخاصة (الفرقة الذهبية)، فضلاً عن مليشيات "الحشد الشعبي" من ضمنها فصائل مسيحية وإيزيدية وتركمانية وأخرى عربية (قوات العشائر) بهدف نشرهم في عموم المناطق التي كانت البشمركة تسيطر عليها، مع برنامج مكثف لإعادة افتتاح مراكز الشرطة ومقرات الحكومة الاتحادية وإزالة جميع آثار حكم أربيل لها.
ومن أبرز المناطق التي تم استردادها أمس الثلاثاء هي، سنجار وبعشيقة ومخمور والكوير وسد الموصل وتل سقف وتل كيف وسنون وربيعة في سهل نينوى شمال وشرق وغرب الموصل، وهي مناطق ذات غالبية مسيحية عربية مع الإيزيديين الأكراد والعرب، وخليط من التركمان. وفي ديالى، تم استعادة جلولاء وخانقين و12 قرية وبلدة صغيرة حدودية بين ديالى والسليمانية. وفي كركوك، تم استرداد آخر منطقة وهي الدبس فضلاً عن منطقة التون كوبري والزاب. وفي صلاح الدين، تم استرداد طوز الجديدة بالكامل. وأنزلت القوات العراقية العلم الكردي الخاص بحكومة إقليم كردستان ورفعت العلم العراقي الرسمي بعد انسحاب قوات البشمركة بلا قتال، وقد جرى الموضوع كعملية استلام وتسليم للمواقع والمقرات. وشوهدت سيارات كبيرة وأخرى خاصة تقل عائلات كردية متوجهة إلى أربيل والسليمانية خشيةً من وقوع أعمال انتقامية ذات طابع عنصري. وشهدت بوابات أربيل الغربية والجنوبية تكدس مئات السيارات لمواطنين نزحوا من تلك المناطق غالبيهم أكراد أو من العرب السنة الذين يخشون من دخول المليشيات لمناطقهم وتنفيذ أعمال انتقامية.
ولم يتبق من مناطق يسيطر عليها الأكراد، في ما يُعرف بالمناطق المتنازع عليها، سوى أربع بلدات فقط، هي زمار وشيخان وكرم ليس والشرفية وعين سفيني. وأكدت مصادر أن القوات العراقية ستتسلمها في وقت لاحق اليوم.
في السياق ذاته، سيطرت القوات العراقية على معبري برويز خان مع إيران ومعبر ربيعة مع سورية بعد انسحاب البشمركة منهما. ونقل مراسل "العربي الجديد" في أربيل عن مصادر حكومية كردية قولها إن القوات العراقية العسكرية دخلت مع شرطة محلية وموظفي أمن وجمارك للمعبرين، مرجحاً أن تعيد إيران فتح المعبر مجدداً مع كردستان بعد هذا التطور.
في غضون ذلك، تتصاعد حدة الخلافات داخل القوى الكردية ممثلة بمعسكري السليمانية وأربيل، إذ أكد القيادي في الحزب "الديمقراطي الكردستاني" آسو شقلاوي، وجود ما وصفها بـ"المؤامرة" ضد مسعود البارزاني لإزاحته عن السلطة لصالح السليمانية. وبيّن أن "الحزب يعد قائمة بأسماء الخونة من أعضاء حزب الاتحاد الذين أبرموا اتفاقية الخيانة مع بغداد وسلموا كركوك"، وفق تعبيره. وقال لـ"العربي الجديد" إن "كركوك وباقي المناطق الكردية التاريخية تعرضت لخيانة كبيرة هدفها إسقاط البارزاني قبل أن تمنح المناطق التي حررناها من داعش بالدم والنار لبغداد على طبق من ذهب من دون أن تخسر بها جندياً واحداً"، وفقاً لقوله. وأضاف أن "تلك الشخصيات التي وقعت على اتفاق الغدر مع بغداد برعاية ومباركة إيرانية يجب أن تحال للقضاء بتهمة الخيانة العظمى وفقاً لدستور الإقليم".
في المقابل، اتهم القيادي في حركة "التغيير" المعارضة والمتحالفة مع "الاتحاد الوطني" بالسليمانية في هذه الأزمة، محمود شيخ وهاب، الرئيس مسعود البارزاني بأنه سبب جميع مشاكل الإقليم، مطالباً بعزله. وقال في اتصال مع "العربي الجديد" إن "حركة التغيير حذرت من مغبة المضي باستفتاء كردستان لكن البارزاني أصر عليه لمآرب أخرى من بينها التغطية على الفساد بالإقليم". وبيّن أن "الواجب اليوم هو تنحي البارزاني من السلطة في الإقليم وتشكيل حكومة لمنع ضياع حقوق الشعب الكردي".
ودعا التحالف الجديد الذي يرأسه القيادي الكردي، برهم صالح، إلى تشكيل حكومة انتقالية في كردستان العراق، وظيفتها إجراء حوار بناء مع بغداد، لحين تنظيم انتخابات نزيهة في الإقليم. وذكر بيان لـ"التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة" أن "الوضع الحالي لا تتحمله قوات البشمركة بل المجازفات السياسية والخطوات اللا واقعية التي لم تأخذ بحسبانها مصالح الشعب الكردي"، داعياً إلى "الحوار المباشر بين ممثلي شعب كردستان وبغداد".
وراجت معلومات بين أوساط كردية مطلعة على مطبخ صنع القرار في أربيل، تفيد بأن الأميركيين وافقوا على الاتفاق الذي تم بين بغداد والسليمانية وطهران، والقاضي بالحسم العسكري للعودة إلى الخط الأخضر ليل الأحد، أي قبل ساعات من بدء الزحف العسكري باتجاه المناطق المتنازع عليها. وتحدثت المعلومات عن أن السفير الأميركي في بغداد، دوغلاس سيليمان، أبلغ البارزاني ليل الأحد بالموقف الأميركي (المؤيد لاستلام بغداد المناطق المتنازع عليها)، وهو ما جعل البارزاني يصدر أوامره بعدم التصدي العسكري للقوات العراقية التي ترافقها قوات "الحشد الشعبي".
وقال القيادي بالتحالف العراقي الحاكم، عباس البياتي، وهو مقرب من رئيس الوزراء حيدر العبادي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة مصممة على انتزاع جميع المناطق المتنازع عليها والعودة إلى الوضع الذي كان قائماً عام 2014. وأضاف أن هذه المناطق "تعود لسيطرة بغداد أمنياً وإدارياً وتدار من قبلها كما في السابق ولا وجود لعمليات تهجير ولا تغيير ديموغرافي وتحركنا كله ضمن الدستور"، مؤكداً أن "القوات الاتحادية أخذت مواقعها الجديدة منذ مساء الثلاثاء".
وحول الموقف الأميركي، ذكر البياتي إن هذا الموقف يمكن وصفه "بالمحايد الذي يخدم إجراءات الحكومة العراقية ما يعني أنه داعم بشكل أو آخر"، وفق تعبيره. وأضاف أن الأوروبيين والغربيين "بشكل عام، تفهموا أن بغداد تتحرك ضمن الدستور وتمارس صلاحياتها بذلك وتم إبلاغهم بأن أي صراع مسلح سينشب في حال رفض أربيل إخلاء المناطق، يعني عودة داعش للتوغل من جديد في وقت يجب أن يكون فيه الجهد العسكري ضده فقط"، في إشارة إلى ضرورة تجنب الاقتتال بين القوات العراقية والبشمركة. وخلص إلى أن واشنطن "لم تبلغنا بأنها تعترض أو تتحفظ على خطواتنا"، وفق تعبيره.
من جانبه، اعتبر القيادي في "الجماعة الإسلامية" الحليفة للحزب "الديمقراطي" بزعامة البارزاني، النائب في برلمان كردستان، زانا سعيد، في حديث لـ"العربي الجديد" إنّ "اتفاقاً إيرانياً تركياً عراقياً بعلم واشنطن وبالتواطؤ مع أطراف كردية أوصلنا لهذه النتيجة". وأضاف "من يسأل لماذا انسحبت البشمركة اليوم من المناطق الأخرى أقول له قررنا أن نتجنب الصدام، وأربيل فهمت جيداً الموقف والرسالة الأميركية واضحة بتخليها لذا اعتبرنا الحرب خاسرة وآثرنا الانسحاب من باقي المناطق"، على حد قوله.
وأكّد القيادي في الحزب "الديمقراطي الكردستاني"، عرفات كرم، لـ"العربي الجديد" أن مجموعة من "الاتحاد الوطني تآمرت على كردستان ودماء الشهداء واتفقوا مع إيران وبغداد بتسليم كركوك وباقي المناطق". وقال "هاجمونا وكان الرئيس العراقي فؤاد معصوم يعد بالمبادرة، فيما كانوا قد غدروا مع شركاء وأخوة الدم بنا لقتل حق تقرير المصير". وأضاف أن "الانسحاب الذي حصل يعود سببه لأننا لا نريد اقتتالاً وإراقة دماء ستضعفنا داخل الإقليم وخارجه"، مبيناً أن "البارزاني ليس متهماً الآن بل من خانوا هم المتهمون من الشارع الكردي"، بشأن خسارة المناطق المتنازع عليها وما سينتج عن ذلك من تداعيات على كردستان العراق.