صدر تقرير عن البنك الدولي في 25 سبتمبر/ أيلول عام 2018، يحذر من خطورة الوضع الاقتصادي في غزة. وقد أدت الحرب، والعزلة، والتنافسات الدولية، إلى شل حركة الاقتصاد هنالك، وإلى تعميق الشعور بالبؤس، حسب أقوال الخبيرة مارينا ويمس، مديرة البنك الدولي في المنطقة. "وبالطبع فإن القلق واليأس يؤديان إلى مزيد من العنف والتوتر والتي بدأت تنتقل إلى أحداث غاضبة واحتجاجات قوية انعكست على مؤشرات التنمية البشرية في منطقة تعج بالشباب".
ويقول التقرير إن النصف الأول من عام 2018 شهد تراجعاً في معدل النمو حيث بلغ سالب 6%، ووصلت البطالة إلى 50% بين القوى العاملة، و70% بين فئة الشباب. وقد حذّر التقرير من أن استمرار الحصار الإسرائيلي وصمت العالم عن الممارسات الجارية سيؤديان، في النهاية، إلى مزيد من العنف والتوتر، وربما إلى الحرب.
ولقد أثبتت الأيام، وبسرعة، صحة ما تنبأ به التقرير، فقد شهد الأسبوع الماضي اندلاع حربٍ لثلاثة أيام، أدت إلى استشهاد حوالي ثلاثين شخصاً وطفلاً وامرأة في قطاع غزة، وهدم عشرات البنايات وتدميرها.
وفي المقابل، ذكر تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2011 أن قطاع غزة قد نما في سنة واحدة 20%، وأن هنالك حركة اقتصادية دؤوبة في القطاع.
ولكن هذا النشاط لم يدم طويلاً، وعزَّ على دولة الاحتلال إسرائيل أن ترى هذا القطاع ينمو، ففرضت عليه الحصار بحجج الأمن، وحتى تعطي نتنياهو مؤونة اللجوء إلى العنف وسياسة كسر العظم. واستمر القطاع في نشاطه الاقتصادي حتى عام 2013، ولكن بمعدلاتٍ أقل.
ومن المفروض أن يتأمل الاقتصاديون في حكاية قطاع غزة، وقدرته التي تكاد تكون خرافية على الصمود، فهذا القطاع تعرض للاحتلال عام 1956، إبان حملة السويس التي قادتها آنذاك بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر. ومع أن القوات الثلاث انسحبت من القناة ومصر بعد أقل من أسبوعين، إلا أن إسرائيل بقيت في قطاع غزة عدة أشهر.
وقد أدت المواجهات والاحتكاكات بين الجنود المحتلين من إسرائيل والمناضلين والفدائيين من غزة إلى إيجاد حركة فتح التي صارت أكبر حركات المقاومة الفلسطينية، حين أعلن عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية العام 1964.
وبعد العام 1967، وإعادة احتلال غزة وسيناء حيث عاد الاحتلال الإسرائيلي ليطل على قناة السويس، بدأت المقاومة في غزة بالاشتداد، وذلك قبل أن توجد حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وقد وجد أهل غزة طرقاً كثيرة من أجل تأمين لقمة العيش لأسرهم، ولم يفت في عضدهم الاحتلال أو قسوته، ولا عمله اللحوح إلى منعهم من مزاولة الزراعة المتميزة (البرتقال والجوافة وغيرها)، ولا من أداء الأعمال الحرفية والفنية.
وأتقنوا فنون البناء، والميكانيك وخصوصاً ميكانيك السيارات، وتعلموا الخراطة والحدادة والنجارة وصنع الأثاث من أدوات بسيطة. وأنشأوا الجامعات، واستمروا في عمليات الصيد البحري، على الرغم من استهداف قواربهم.
وحدث هذا كله، على الرغم عن إسرائيل. ولكن الأهم أن صناعة الأسلحة والعتاد وتجارة التهريب وفنون الاقتصاد غير الرسمي ازدهرت. وقد تعلم أبناء غزة فنون الكيمياء وأتقنوها. واستخدموا المواد التي خلّفها دمار القصف الإسرائيلي، ليصنعوا منها أسلحة وصواريخ ومتفجراتٍ تقض مضاجع إسرائيل التي أعلنت الحرب على قطاع غزة في عام 2006، بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية هنالك في ذلك العام.
ولذلك، نجح قطاع غزة لأسباب المقاومة الصلبة، والثبات على الأرض، والذكاء السياسي في الاتصالات الدولية، وترابط الحكومة في الداخل، وقادتها في الخارج، إلى فرض ذلك القرار على واحد من أشرس القادة الإسرائيليين العسكريين، وهو شارون.
ومن منا ينسى حقيقتين إضافيتين؟ أن أهل غزة اتخذوا من الإنجاب رسالة واستراتيجية لزيادة السكان، وتعزيز المقاومة بهم. وأن هؤلاء الشباب لم يتنعموا، بل اخشوشنوا في الظروف الصعبة التي عاشوها.
وكذلك من ينسى اقتصاد الأنفاق التي بُنيت بالمئات، ليس بين قطاع غزة ومصر فحسب، بل وحتى بُني الكثير منها داخل إسرائيل نفسها. وقد تنوعت هذه الأنفاق، وبُني حولها نظام تجارة متكامل. وقد استمرّت هذه الأنفاق بالعمل، حتى أوقفتها إسرائيل، ومصر لأسباب مختلفة، حيث ارتبط القرار المصري حينها بالأمن والحوادث الإرهابية المرتكبة في سيناء.
القضية الاقتصادية لغزة، مزدهرة كانت أو واجهت صعوباتٍ وتراجعاً اقتصادياً، تعتبر بحد ذاتها ملحمة تستحق أن تُؤرخ، وتدون عبرة للناس من كل جانب، ودرساً للشعوب التي يسعى الآخرون المستبدّون إلى قهرها.
وأنا واثق أن غزة ستكون، خلال سنوات، واحدةً من أنجح الاقتصادات العربية والدولية، متى ما رُفع عنها الحصار الإسرائيلي، وتآلفت الدول العربية على أسلوب التعامل معها.