في بيانه أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي خلال جلسة الموافقة على تعيينه في 11 يناير 2017، قال وزير الخارجية السابق راكس تيلرسون: "سوف نقوم بإرسال إشارة واضحة إلى الصين بأن عليها التوقف عن بناء الجزر (في بحر جنوب الصين)، وبأنه لن يكون مسموحاً لها الوصول إليها". لغة أوحت بتحول حاد في مسار العلاقات مع بكين التي بقيت سالكة منذ تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين في 1979.
أمس الإثنين، وفي إطار تصعيد خطابي وتوعّد بفرض عقوبات، قال وزير الخارجية مايك بومبيو إنه "لن يكون مسموحاً للصين التعامل مع المياه الاستراتيجية (في البحر ذاته) وكأنه إمبراطورية بحرية ". كلام جديد وغير معهود، بدا وكأنه انطوى على تحول نهائي في سياسة الإدارة تجاه بكين.
والمعروف أن تيلرسون سرعان ما تراجع آنذاك ومعه البيت الأبيض، عن مثل هذا التوجه، وقد تبين أن إشارته كانت من قبيل الرسالة المبكرة بغرض الردع ولإشاعة الاعتقاد بأن الإدارة عازمة على اعتماد التشدد في سياستها الخارجية، ليتكشف فيما بعد بأن الرسالة كانت من غير خطة للتنفيذ، وأن الأمر لم يكن أكثر من تهويل أجوف، فالجزر اكتمل بناؤها وتحولت إلى قواعد عسكرية بسيادة صينية.
هل تحذير بومبيو من نفس صنف تيلرسون، وبالتالي محكوم بذات النهاية؟
ومع اختلاف الظروف ووقوف الرئيس ترامب حالياً على عتبة انتخابات تجري رياحها ضده وبقوة، وكورونا وكلفتها العالية الصحية والاقتصادية تعمل لصالح منافسه الديمقراطي جو بايدن، فإنه ليس من المتوقع لا طبياً ولا اقتصادياً أن تأتي المدة المتبقية ليوم الاستحقاق 112 يوماً، بانقلاب في الأرقام لمصلحته.
ثمة شبه إجماع بأن الانفراج على الجبهتين الاقتصادية والصحية ما زال على مسافة عام أو عامين، وعلى هذا الأساس، ليس من المستبعد أن تلجأ الإدارة إلى تسخين ما، على أمل أن يغيّر الاهتمامات والحسابات، فالصين " صوفتها حمراء " في أميركا، إذ أن المناخ العام ناقم عليها ولو أن رصيدها في الولايات الزراعية جيد باعتبارها الزبون الدولي الأكبر في شراء المحاصيل الزراعية، لكنها في العموم منبوذة من باب أنها "تنهب" أميركا بفائض تجاري سنوي لصالحها يتراوح بين 300 و400 مليار دولار وأنها تسببت في إغلاق حوالي 70 ألف مصنع، وتسريح ما يزيد على 5 ملايين عامل. ومع أن الشركات الأميركية هي في الواقع التي أدى انتقالها إلى الصين طمعاً برخص اليد العاملة، إلى هذه الخسائر.
وفي الآونة الأخيرة، تكثفت الحملة ضد بكين، فالوزير بومبيو صّوب في تصريحاته ومقابلاته على الحزب الشيوعي الصيني وليس على الحكومة الصينية. الأسم يساعد في الاستنفار والالتفاف حول الإدارة. الرئيس ترامب عمل على التركيز على كورونا باعتبارها "منتج صيني" انتقل إلى الخارج وأميركا بسبب " الإهمال" الرسمي الصيني. وأضيفت إلى ذلك أزمة هونغ كونغ باعتبارها " نكوص " لتعهدات بكين وإخضاع المدينة للقانون الأمني الصيني.
وفي الآونة الأخيرة، تكثفت الحملة ضد بكين، فالوزير بومبيو صّوب في تصريحاته ومقابلاته على الحزب الشيوعي الصيني وليس على الحكومة الصينية
كما تم مؤخراً استحضار موضوع معسكرات المسلمين الصينيين لضمه إلى الحملة الانتخابية التي بدت أقرب إلى عملية تعبئة قد تؤدي "إلى شيء من الاحتكاك"، خاصة وأن بكين انتهجت مؤخراً نهجاً هجومياً ليس فقط في جنوب بحر الصين، بل أيضاً في الجوار الهندي والفيتنامي، البري والبحري. أرجحيتها الاقتصادية تعثرت، إن لم تكن قد تراجعت في المدة الأخيرة وربما كان تصعيدها الإقليمي من باب التعويض على هذا التراجع.
لكن في كل حال، وصول الأمور إلى هذا الحد بين العملاقين كان مسألة وقت. يتردد الحديث منذ زمن بعيد في واشنطن عن " التنافس المحتوم " بين أكبر اقتصادين وما ينطوي عليه هذا الموقع من مؤهلات للزعامة الدولية، وكان هناك باستمرار مدرستان في هذا الخصوص بواشنطن. واحدة كلاسيكية وتنتمي إلى فريق العولمة ونظامها الذي صاغته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية والذي " عاد على أميركا بمردودات وفوائد غزيرة" حسب ريتشارد هاس، أحد محاميي هذا النظام. وتدعو هذه المدرسة إلى التعامل مع الصين "بمزيج من الردع والتعاون" وفقاً للظروف ودواعيها. ومدرسة أخرى، ترى أن الصين هي "الخطر الأكبر وليس روسيا " حسب تعبير باتريك بيوكانن، أحد عتاة رموز المحافظين التقليديين، وبالتالي لا بدّ من مواجهتها خاصة في المجال التجاري. ويذهب البعض مثل جون بولتون إلى حدود الدعوة للتصدي العسكري لها "والذي لا نعرف كيف سينتهي من دون مواجهة من هذا النوع ".
الرئيس ترامب، حاول المشي بين الخطين، ولجأ إلى التسخين في البداية، و هدد بالحرب الاقتصادية عبر رفع التعرفة الجمركية على الواردات الصينية، لكن عندما بدأت هذه السياسة تؤذي السوق الأميركية، سارع منذ الصيف الماضي إلى التراجع وسعى إلى حل وسط تجلى باتفاقية تجارية غامضة مع الصين بقيت هشة وبغير ما وعد به.
التصعيد الراهن استحضر التذكير بالحرب التجارية وتراجعاتها. ولو أن واشنطن عززت الحضور العسكري البحري في بحر جنوب الصين بإرسال حاملتي طائرات مؤخراً إلى المنطقة. الأزمة ما زالت في مرحلة استعراض العضلات. وإذا كانت احتمالات مواجهة أميركية صينية مستبعدة، فإن هناك مخاوف من مغبة التمادي في التأزيم بدوافع محلية وجيوسياسية، وخاصة من أن يؤدي ذلك إلى صدام بين الصين والمحسوبين في المنطقة على الخندق الأميركي، مثل فييتنام أو أستراليا التي تأزمت علاقاتهما مع بكين جراء الأوضاع المتوترة مؤخراً.