26 سبتمبر 2024
المفـاجـأة
ازدادت الأوضاع في المشرق العربي، في الآونة الأخيرة، سوءاً، وبصورة تدعو إلى كثير من القلق. صحيح أن هذه الأوضاع لم تعرف الاستقرار منذ سنوات، إلاَّ أن المشهد السياسي يعرف، اليوم، أشكالاً من التصعيد نقلت الصراعات القائمة فيه، من دوائر المناورات وصناعة المواقف التي يمكن أن تساعد في عمليات تأزيم الأوضاع إلى مستوى التفجير الذي أسْقَط عشرات القتلى من قوات التحالف التي تقودها السعودية في اليمن، وهَجَّر آلاف السوريين بصورة مُضطَّردة نحو المجهول، إضافة إلى عذابات التهجير والموت، وما تخلِّفُه من أوجاع ونُدوب في الوجدان، وفي الذاكرة.
كنت، إلى عهد قريب، أتصَوَّر أن استخدام العنف الطائفي والمذهبي في الحروب يندرج ضمن مخطَّطَات تروم تفتيت المجتمع، وتفكيك الأواصر التي أبْرَمَ وركَّب خلال عقود، الأمر الذي يُمَهِّد الطريق لِسَدَنَة الاستبداد، ومن معهم، ليمارسوا مَحْو المكاسب الحاصلة في مجالات الاندماج والوحدة الوطنية، فتسهل عليهم عمليات الانقضاض على مجتمع مُتَذَرِّر ومُفَكَّك، إلاَّ أن تَكَالُب سياقات تاريخية وقوى محلِّية وإقليمية ودولية منح هذه الممارسات شروطاً أدَّت إلى تحويلها إلى أدواتٍ تُسْعِف، فعلاً، بتحويل جبهات الصراع إلى فضاءات للاقتتال العنيف، الأمر الذي يرسم، بكثيرٍ من الحدَّة، خطوط اللاَّعودة واللاَّتراجع عن كل ما حصل ويحصل.
انخرطت روسيا، كما إيران وتنظيمات سياسية عربية أخرى من بلدان مختلفة، في توسيع دوائر العبث بمصير المجتمع السوري، حماية لنظامه السياسي. وبجوار هؤلاء، واصلت الولايات المتحدة الأميركية حراستها بؤر الطاقة ودوائر الأمن الإسرائيلي، بأساليبها المعروفة وبغطرسةٍ كثيرة، مع إرادة تروم إعادة رسم خرائط المشرق العربي. كما امتلكت أنظمة أوروبية وسائل أخرى، تحت مُسَمَّيَات مختلفة، بهدف متابعة ما يجري في سورية والعراق ودول الخليج العربي، بحكم أن سورية تشترك في الحدود مع العراق وتركيا وفلسطين والأردن، وفي هذه البلدان، كما يعرف المتابعُون والمهتمُّون، نواجه أوضاعاً سياسية تتميَّز بكثير من الهشاشة. وفي قلب هذا كله، نشأت الداعشية وأخواتها، وهي تنظيمات تخترق سورية والمجتمعات المحيطة بها، وتتعدَّاها مجتمعةً إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يتم استعمال المرتزقة، بذرائع مختلفة ومتنوِّعة، الأمر الذي يضع مآل المشرق العربي أمام بوابة الجحيم. فكيف تطوَّرت كُرَة النَّار وتدحرجَت، لتغطّي اليوم جغرافية من حجم ما ذكرنا؟ كيف أصبح أمام الوليمة والمأتم كل هذا العدد من الزوَّار؟
لا يتعلق الأمر، فيما نحن بصدده، بحرب تقليدية ذات مواقع واضحة، وأهداف مرسومة
ومقرَّرة، حرب يقوم بها جنود بواسطة دبَّابات وبوارج حربية وطائرات تمتلكها الأطراف المعنية بساحة الوَغَى، بل أخطر ما في الأمر أن أسلحة ما يقع اليوم في الحروب، المشتعلة هنا وهناك، تتجاوز الطرق والوسائل المعهودة في الحروب التقليدية. إنها حروب يجري، اليوم، ابتكار سياقاتها وأسلحتها وجنودها.
لنعد إلى الوراء قليلاً، ونتأمل الصورة مرة أخرى، تقوم الانتفاضة المدنية في المجتمع السوري للمطالبة بنظام سياسي، يقطع مع الاستبداد والفساد، وتواجه الدولة المنتفضين، فتطلق عليهم النار، كما تطلق عليهم أسماء مختلفة. يتَّسع مدار الفعل والحركة، كما تتَّسِع مدارات ردود الفعل والمواجهة، فتتحوَّل التسميات إلى وقائع، ويصبح الإرهاب داعشياً. وتبدأ اللعبة في اتّخاذ صُوَّر وأوجه ومبادرات عديدة، أغلبها لم يكن متوقّعاً عند انطلاقها. وإذا كنّا نعرف أن الفعل الأول الذي حصل في سورية كان له ما يشبهه في بلدان أخرى قبلها، في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولأن سورية كانت دائماً، ومنذ هزيمة 67، تعزف لحن الممانعة، فقد عَمَّمَتْه وجعلته يشمل مختلف أحوالها.
تحوَّلت المسألة من قضيةٍ، يُفْتَرَض أن توصل إلى خيارات معيَّنة (سلطة مستبدَّة ومعارضة) إلى قضية عرفت، وتعرف، آلاف الضحايا والمُهَجَّرِين والهاربين والمختطفين، من دون أن نتحدث عن أوضاع الذين يعيشون وسط التراب والخراب والغبار.
أصبحت الأبواب موصَدَة، وازداد الوضع المجتمعي والسياسي تدهوراً، وأنا في حيرة من أمري، حصلت لي غفوةٌ وسط هذه الضائقة الكبرى، بويلاتها التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى. انتبهت إلى خبر تداولته وسائل الإعلام السورية، أن الرئيس بشار الأسد سيلقي مساء اليوم خطاباً، يعرض فيه تصوُّره للمخرَج المناسب للورطة القائمة. ولا أدري لِمَاذا حرصت على انتظار موعد هذا اللقاء، على الرغم من عدم تصديقي الخبر، وتمنَّيت أن يتحدث السيد الرئيس، من دون أوراق، ومن دون حركات بيديه وعينيه، وأن تأتي كلمته واضحة وقصيرة، وقد حصل ذلك فعلاً، فقد أعلن الترتيبات التي تُسْعِف بنقل السلطة إلى هيئة وطنية مشتركة، تُكَلَّف بتدبير مرحلة انتقالية، تُتِيح عودة الاستقرار إلى سورية، فتأكَّدت فعلاً أن المفاجأة حصلت، ولم تكن مجرد عنوان لمقالة.
كنت، إلى عهد قريب، أتصَوَّر أن استخدام العنف الطائفي والمذهبي في الحروب يندرج ضمن مخطَّطَات تروم تفتيت المجتمع، وتفكيك الأواصر التي أبْرَمَ وركَّب خلال عقود، الأمر الذي يُمَهِّد الطريق لِسَدَنَة الاستبداد، ومن معهم، ليمارسوا مَحْو المكاسب الحاصلة في مجالات الاندماج والوحدة الوطنية، فتسهل عليهم عمليات الانقضاض على مجتمع مُتَذَرِّر ومُفَكَّك، إلاَّ أن تَكَالُب سياقات تاريخية وقوى محلِّية وإقليمية ودولية منح هذه الممارسات شروطاً أدَّت إلى تحويلها إلى أدواتٍ تُسْعِف، فعلاً، بتحويل جبهات الصراع إلى فضاءات للاقتتال العنيف، الأمر الذي يرسم، بكثيرٍ من الحدَّة، خطوط اللاَّعودة واللاَّتراجع عن كل ما حصل ويحصل.
انخرطت روسيا، كما إيران وتنظيمات سياسية عربية أخرى من بلدان مختلفة، في توسيع دوائر العبث بمصير المجتمع السوري، حماية لنظامه السياسي. وبجوار هؤلاء، واصلت الولايات المتحدة الأميركية حراستها بؤر الطاقة ودوائر الأمن الإسرائيلي، بأساليبها المعروفة وبغطرسةٍ كثيرة، مع إرادة تروم إعادة رسم خرائط المشرق العربي. كما امتلكت أنظمة أوروبية وسائل أخرى، تحت مُسَمَّيَات مختلفة، بهدف متابعة ما يجري في سورية والعراق ودول الخليج العربي، بحكم أن سورية تشترك في الحدود مع العراق وتركيا وفلسطين والأردن، وفي هذه البلدان، كما يعرف المتابعُون والمهتمُّون، نواجه أوضاعاً سياسية تتميَّز بكثير من الهشاشة. وفي قلب هذا كله، نشأت الداعشية وأخواتها، وهي تنظيمات تخترق سورية والمجتمعات المحيطة بها، وتتعدَّاها مجتمعةً إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يتم استعمال المرتزقة، بذرائع مختلفة ومتنوِّعة، الأمر الذي يضع مآل المشرق العربي أمام بوابة الجحيم. فكيف تطوَّرت كُرَة النَّار وتدحرجَت، لتغطّي اليوم جغرافية من حجم ما ذكرنا؟ كيف أصبح أمام الوليمة والمأتم كل هذا العدد من الزوَّار؟
لا يتعلق الأمر، فيما نحن بصدده، بحرب تقليدية ذات مواقع واضحة، وأهداف مرسومة
لنعد إلى الوراء قليلاً، ونتأمل الصورة مرة أخرى، تقوم الانتفاضة المدنية في المجتمع السوري للمطالبة بنظام سياسي، يقطع مع الاستبداد والفساد، وتواجه الدولة المنتفضين، فتطلق عليهم النار، كما تطلق عليهم أسماء مختلفة. يتَّسع مدار الفعل والحركة، كما تتَّسِع مدارات ردود الفعل والمواجهة، فتتحوَّل التسميات إلى وقائع، ويصبح الإرهاب داعشياً. وتبدأ اللعبة في اتّخاذ صُوَّر وأوجه ومبادرات عديدة، أغلبها لم يكن متوقّعاً عند انطلاقها. وإذا كنّا نعرف أن الفعل الأول الذي حصل في سورية كان له ما يشبهه في بلدان أخرى قبلها، في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولأن سورية كانت دائماً، ومنذ هزيمة 67، تعزف لحن الممانعة، فقد عَمَّمَتْه وجعلته يشمل مختلف أحوالها.
تحوَّلت المسألة من قضيةٍ، يُفْتَرَض أن توصل إلى خيارات معيَّنة (سلطة مستبدَّة ومعارضة) إلى قضية عرفت، وتعرف، آلاف الضحايا والمُهَجَّرِين والهاربين والمختطفين، من دون أن نتحدث عن أوضاع الذين يعيشون وسط التراب والخراب والغبار.
أصبحت الأبواب موصَدَة، وازداد الوضع المجتمعي والسياسي تدهوراً، وأنا في حيرة من أمري، حصلت لي غفوةٌ وسط هذه الضائقة الكبرى، بويلاتها التي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى. انتبهت إلى خبر تداولته وسائل الإعلام السورية، أن الرئيس بشار الأسد سيلقي مساء اليوم خطاباً، يعرض فيه تصوُّره للمخرَج المناسب للورطة القائمة. ولا أدري لِمَاذا حرصت على انتظار موعد هذا اللقاء، على الرغم من عدم تصديقي الخبر، وتمنَّيت أن يتحدث السيد الرئيس، من دون أوراق، ومن دون حركات بيديه وعينيه، وأن تأتي كلمته واضحة وقصيرة، وقد حصل ذلك فعلاً، فقد أعلن الترتيبات التي تُسْعِف بنقل السلطة إلى هيئة وطنية مشتركة، تُكَلَّف بتدبير مرحلة انتقالية، تُتِيح عودة الاستقرار إلى سورية، فتأكَّدت فعلاً أن المفاجأة حصلت، ولم تكن مجرد عنوان لمقالة.