على خلاف التقاليد الموروثة عن الآلة الدبلوماسية المغربية، المعروفة لكونها علبة صامتة لا تنطق ولا تعبّر عن مواقفها إلا في اللحظات الحاسمة، وعبر القنوات غير المباشرة، كان "الارتداد" الدبلوماسي المغربي عن قاعدته الذهبية التي طبعت أداءه لأكثر من ستين عاماً، مثيراً للداخل المغربي، قبل الخارج.
فالحملة الإعلامية التي شنّتها القناة الأولى الرسمية في المغرب، مسنودة بالقناة الثانية، على نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووصفه بالنظام الانقلابي على السلطة الشرعية للرئيس المعزول محمد مرسي، لم يكن لتحصل لولا أن المغرب الرسمي، وجد نفسه محشوراً في الزاوية، ومطلوباً منه فاعلية في رد دبلوماسي قوي، يجعل القاهرة تخفف من الهجوم الإعلامي المنسّق الذي تعرضت له السلطة السياسية في الرباط، والذي تجاوز حدود المسموح به إلى تشنيع متعمد عن طريق تقارير تخدم أذرعا إعلامية تابعة لممسكي القرار في مصر، أو قريبة من دوائر النفوذ والمال والأعمال، المنزعجة من التحرك الأخير للمغرب في محوري الخليج وتركيا.
وإذا كانت الخارجية المغربية في شخص وزيرها صلاح الدين مزوار لم تحرّك ساكناً حتى الآن، وتركت سفيرها في القاهرة سعد العلمي يدلي بتصريح يُحمّل فيه مسؤولية التقرير في التلفزيون المغربي الرسمي إلى "شخص معادٍ" لمصالح المغرب ويسعى إلى الدس في العلاقات بين "البلدين الشقيقين"، فإن المغرب لم يذهب جدياً إلى حدود فتح تحقيق في "المؤامرة" المدروسة بتصريف موقف مناقض للموقف الرسمي من نظام السيسي، وما إذا كان الأمر يتعلق بخطأ مهني مقصود، علماً أن مثل هذه التقارير الحساسة، غالباً، ووفق القواعد المعمول بها في صالة تحرير القناة الأولى أو الثانية، تخضع لموافقة من "جهات ضبط الخط التحريري"، بما في ذلك منح ضوء أخضر من عدمه لمرور مثل هذه المواد من أخبار وتقارير.
ولعل هذا الحادث يستدعي مقاربته والإضاءة عليه من ثلاث زوايا.
الزاوية الأولى، أن نقل المغرب المواجهة مع قوى في النظام المصري إلى مستوى المواجهة الإعلامية، هو رسالة إلى الداخل وإلى الخارج، ومفادها أن المغرب لن يتساهل مع الحملات الإعلامية التي تُشن ضده في وسائل الإعلام الأجنبية، وهو مستعد للرد بالصيغة نفسها وبطرق الإثارة التي يتّبعها ذاك الإعلام.
وقبل واقعة مصر، حاول المغرب ذلك بفاعلية في إطار الحرب الإعلامية التقليدية مع جارته الجزائر، من خلال الحرب الإلكترونية والحملات المنسّقة في الصحف والمواقع الإخبارية.
كما جرّب الصيغة نفسها في إطار معالجته لسوء التفاهم مع فرنسا، بعد أن استهدف إعلامها رموزاً في السلطة، وكانت النتيجة تخلّي الإليزيه مؤقتاً عن مهاجمة الرباط، في وقت بلغت فيه العلاقات الدبلوماسية بين باريس والرباط مستوى غير مسبوق من السوء، ما تزال تداعياته قائمة حتى الآن، في سياق إجراءات أدت بالمغرب إلى وقف اتفاقيات التعاون القضائي بين البلدين وتعليقها إلى حين، مما يهدد مصالح أكثر من 30 ألف فرنسي يقيمون في المغرب.
كما استعمل المغرب قاعدة الحرب الإعلامية مع جارته إسبانيا، في قضايا المهاجرين والمخدرات، مما أرغم مدريد على استرضاء الرباط، حتى أن صحيفة "البايس" الإسبانية اضطرت إلى سحب مراسلتها من المغرب، والتي كان تكتب تقارير نارية عن الرباط.
الزاوية الثانية، أن لجوء المغرب إلى الإعلام هو مجرد تنبيه، لأن ما سيستتبع ذلك في حال تطورت الأحداث، وهو أمر مستبعد، أن يبدأ الضغط الحقيقي، من خلال استعمال ورقة الاقتصاد، خصوصاً أن الميزان التجاري بين المغرب ومصر يميل لفائدة القاهرة.
مما يعني أن المتضرر الأكبر من تدهور العلاقات هم المستثمرون المصريون في المغرب، وأغلبهم ارتبطوا مع المغرب بعلاقات تجارية من أيام نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
وورقة الضغط الاقتصادي رابحة، لأنها ستتيح للمغرب تسوية الخلافات الطارئة بسبب دوره المتزايد في المنطقة، عن طريق لوبي المال والأعمال.
الزاوية الثالثة، تكمن في قدرة الدبلوماسية المغربية على فتح هوامش للمناورة، وإن كانت تعلم أن موازين القوى الإعلامية بين المغرب ومصر غير متكافئة، فهي وإن حاولت أن تلعب بموقف "جذري"، فإنه ربما من الناحية السياسية، يأتي في الوقت الميت، بعد أن استطاعت القاهرة الحصول على دعم خليجي شبه كامل، سياسياً واقتصادياً.
وإن كان موقف المغرب من نظام السيسي "محروقاً" سياسياً، إلا أنه يدل على الصعيد الداخلي، إلى حاجة المغرب لذراع إعلامية كبيرة وقوية للرد في مثل هذه الأزمات وغيرها، وإلى التفكير جدياً، في فتح المجال الإعلامي، وتحويله من أداة متروكة يجري استخراجها في اللحظات الصعبة، إلى كيان قائم بذاته، ويتمتع بالاستقلالية التي تخوّله تقدير مصالح البلاد العليا، وليس بوقاً في الجوقة.
وقد أظهرت واقعة الخلاف مع القاهرة، كيف أن الأداة الإعلامية يمكن أن تكون مؤثرة، لكن تغريدها خارج السرب، يعرّضها دوماً للتشكيك في مصداقيتها، بسبب تبعيتها الطويلة للدولة.
لكن صمت وزارة الاتصال، المسؤولة عن القطاع، ورجوع المكوّن الرئيسي في الحكومة، حزب "العدالة والتنمية" إلى الوراء، وتنويه موقعه الإلكتروني بالتقرير التلفزيوني، يكشف عن مركزية القرار الدبلوماسي واستقلاله عن القرار الحكومي، كما أنه يؤشر إلى المغرب الرسمي، لم يخرج، عموماً، عن أسلوبه الدبلوماسي، إذ إن القضايا الحقيقية تُحل بعيداً عن أعين الإعلام والمواقف المعلنة، بينما ما يصرف يكون غطاءً للتضليل، وبالونات اختبار، في حين تعود المياه إلى مجاريها خارج توقعات الرأي العام والفاعل السياسي.
وخير تجلٍ لذلك، هو عجز الفاعل السياسي المغربي من حكومة وأحزاب عن فهم ما يجري، بعد أن فوجئ الجميع بالتطور الدرامي للحرب الإعلامية، وهذا ما عطّل المواقف الصادرة عن المجتمع الحزبي إلى حين.
لكن الأكثر حرجاً اليوم هو حزب رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، والذي لا يعرف هل يهلل لموقف التلفزيون المغربي، أم عليه أن يحتاط من مصير أكثر إثارة، فرسائل الإعلام المغربي في هذه الواقعة، مبطنة أكثر مما يتصور البعض.