01 فبراير 2019
المغرب.. الطبقة الوسطى تعثر على سلاحها
انطلقت دعوة يتيمة في المغرب في صفحات "فيسبوك" قبل أن تتحول حقيقة فوق الأرض. كان النقاش، في بدايات الدعوة الافتراضية، منصبا بين الداعمين والرافضين على مصدرها وخلفياتها واستهدافاتها، حيث كانت تتوزع الحجج بين التشكيك في غموض الواقفين وراءها والتباسات سياقها السياسي وبين المناصرة الكلية لمضمونها الاحتجاجي باعتبارها مقاومة للجشع والغلاء، لكن دينامية التجاوب الواسع للدعوة لمقاطعة ثلاث شركات لتوزيع الوقود والماء المعدني والحليب جعلت النقاش المهيكل وفق تلك الثنائية المتقاطبة حول بناء الموقف المبدئي من هذه المبادرة، يصبح بسرعة متجاوزا.
التفكير في دلالات المبادرة، وذاكرتها واستراتيجيتها، لا بد أن ينطلق من تحولات المجتمع المغربي وحركاته الاجتماعية، على الأقل منذ 20 فبراير/ شباط 2011، وصولا إلى تسارع الدورية المتواترة للاحتجاج المناطقي (الحسيمة - جرادة)، وما تحيل إليه من ولادة أشكال جديدة للتعبير عن المطالب داخل الفضاء العمومي، بعيدا عن وساطة التعبيرات الحزبية أو النقابية أو الجمعوية، وباستثمار ذكي لوسائط التواصل الاجتماعي في بناء هويات مشتركة وراء قضايا التعبئة الجماعية.
الجديد هنا هو اختيار واجهة للنضال "السلبي"، لا تحتاج سوى إلى تفاعل المواطن/ الفرد،
عندما يقف أمام بقال الحي، وهو ما يعطي لهذه المبادرة إمكانات كبرى للالتفاف على مخاطر الجواب الأمني التي قد تواجه به حركات احتجاجية أخرى، ويجعلها كذلك تبدو سلاحا مثاليا في يد طبقة وسطى متردّدة من الناحية السياسية، لكن السياسات الاجتماعية تدفعها بدون رحمة في اتجاه مزيد من الإفقار.
يمكن اليوم الانتباه إلى ملاحظتين مركزيتين في التحليل، تهم الأولى موقف الحكومة في بدايات التفاعل مع مبادرة المقاطعة: انتصارها المبدئي والحاد والعقائدي والمنفعل لشركات خاصة في "نزاع مدني" مع دعوات مواطنين إلى مقاطعة مواد استهلاكية، قبل أن تدخل في صمت مطبق.
في سياق الانفعال، كان وزير المالية، في معرض جوابٍ على سؤال برلماني في الموضوع، قد انزاح نحو توصيفات غريبة للمقاطعين، كان لها الأثر المباشر في تأجيج الدعوة، ومنحها قوة دفع جديدة.
وظيفة الحكومة هي بالتأكيد تجسيد فكرة حياد الدولة والدفاع عن المصلحة العامة، وهي بذلك ملزمة أخلاقيا بالمسافة الموضوعية نفسها تجاه مكونات معادلة السوق. وتحرير الأسعار وليبرالية العرض والطلب لا يجعلان الحكومة مجرد حارس للأقوياء، إنها ضامنة للعدالة والحقوق، مطالبة بضبط المنافسة وتصحيح اختلالات السوق. وحتى في أبشع تطبيقات فكرة الدولة ذات وظائف الحد الأدنى، لا يمكن تصور الحكومة محاميا بلا أخلاقيات لحيتان السوق، أو مجرد وكالة للتواصل والإشهار في خدمة الشركات الكبرى، وفي مواجهة معلنة مع المواطن/ المستهلك الذي يتحول فجأة من زبون/ ملك إلى خائن شرير. والليبرالية الاقتصادية نفسها تصبح تمشي على رأسها، وقد مسها شيء مقرف من الستالينية التي وحدها كانت تستطيع تحول سلعةٍ ما إلى رمز مقدس ل"الوطنية"، تعبيرا عن انزياح الشمولية من السياسة إلى الاقتصاد، في التجارب التي آلت إلى مقبرة التاريخ.
أعاد هذا الموقف الحكومي الموزع بين انفعالية غريبة وسكوت مريب التفكير في تقاطعات البنية الحكومية مع المصالح الإقتصادية، وما يطرحه ذلك من تضارب للمصالح.
ترتبط الملاحظة الثانية بمماطلة الشركات المعنية بالمقاطعة، ما قد يحيل في النهاية إلى كثير من السياسة ونزر قليل من الاقتصاد. وفي منطق السوق، تجاوزت المقاطعة عتبة "الضرر" الذي يستدعي بحث الرأسمال عن حلول تفاوضية مع جمهور الزبناء. لكن ربما وحده منطق الاقتصاد السياسي يفسر تعطيل هذه المماطلة.
الرأسمال هنا لا يفكر في تدبير خصومة عادية مع زبناء، لكنه يفكر في تمرين المقاطعة
باعتباره تمرد مواطنين على طوق الضبط الاجتماعي والاقتصادي. وعندما يفعل ذلك، فهو يفكر نيابة عن السلطة الحامية والحاضنة، وليس انطلاقا من ردود فعل المقاولة البراغماتية.
في الجدل بشأن مدى تسييس المقاطعة، لا ننتبه إلى أن السلطة كانت أول من أسرع بمنحها هذه الهوية "لطبيعية في النهاية"، فعلت ذلك عندما قدمت لها أعداء نموذجيين وانتقت لها خصوما مثاليين في الصحافة والسياسية. والآن يبدو أن السياسة لا تعمل سوى على تعطيل قدرة الاقتصاد على تدبير منعرجات السوق، لانها تنظر للمستهلك وتتذكر الناخب، تنظر إلى الزبون وتتذكر المواطن.
يفكر المواطن في الأسعار وفي رمضان المقبل، لكن المقاول الذي يستعير ردود فعل السلطة لبناء تصور عن الموضوع يفكر في الخلايا الإلكترونية، وفي خلفيات الحملة وتوقيتها وفي الانتخابات المقبلة.
ربما تقدّر الشركات المعنية أن المقاطعة سياسية بالطبيعة، وقد يكون ذلك لأن أربابها يعرفون بالتجربة فضل السياسية على وجودهم الاقتصادي، وهو فضل سابق ولاحق على أي فضل آخر، ولو كان السوق نفسه.
في كلاسيكيات الاقتصاد السياسي المغربي درس قديم: الدولة لدينا لم تصنعها الطبقات، الدولة لدينا هي من صنع بورجوازيتها، فعلت ذلك منذ فجر "المغربة"، وصولا إلى ما بعد التخصيص، بما يليق من سياسات اقتصادية وضريبية ومالية.
الحكاية معقدة قليلا. ولكن يبدو أن واحدا من دروس هذا التمرين المدني هو بالضبط إعادة طرح أسئلة الاقتصاد والسياسة في مغرب اليوم.
التفكير في دلالات المبادرة، وذاكرتها واستراتيجيتها، لا بد أن ينطلق من تحولات المجتمع المغربي وحركاته الاجتماعية، على الأقل منذ 20 فبراير/ شباط 2011، وصولا إلى تسارع الدورية المتواترة للاحتجاج المناطقي (الحسيمة - جرادة)، وما تحيل إليه من ولادة أشكال جديدة للتعبير عن المطالب داخل الفضاء العمومي، بعيدا عن وساطة التعبيرات الحزبية أو النقابية أو الجمعوية، وباستثمار ذكي لوسائط التواصل الاجتماعي في بناء هويات مشتركة وراء قضايا التعبئة الجماعية.
الجديد هنا هو اختيار واجهة للنضال "السلبي"، لا تحتاج سوى إلى تفاعل المواطن/ الفرد،
يمكن اليوم الانتباه إلى ملاحظتين مركزيتين في التحليل، تهم الأولى موقف الحكومة في بدايات التفاعل مع مبادرة المقاطعة: انتصارها المبدئي والحاد والعقائدي والمنفعل لشركات خاصة في "نزاع مدني" مع دعوات مواطنين إلى مقاطعة مواد استهلاكية، قبل أن تدخل في صمت مطبق.
في سياق الانفعال، كان وزير المالية، في معرض جوابٍ على سؤال برلماني في الموضوع، قد انزاح نحو توصيفات غريبة للمقاطعين، كان لها الأثر المباشر في تأجيج الدعوة، ومنحها قوة دفع جديدة.
وظيفة الحكومة هي بالتأكيد تجسيد فكرة حياد الدولة والدفاع عن المصلحة العامة، وهي بذلك ملزمة أخلاقيا بالمسافة الموضوعية نفسها تجاه مكونات معادلة السوق. وتحرير الأسعار وليبرالية العرض والطلب لا يجعلان الحكومة مجرد حارس للأقوياء، إنها ضامنة للعدالة والحقوق، مطالبة بضبط المنافسة وتصحيح اختلالات السوق. وحتى في أبشع تطبيقات فكرة الدولة ذات وظائف الحد الأدنى، لا يمكن تصور الحكومة محاميا بلا أخلاقيات لحيتان السوق، أو مجرد وكالة للتواصل والإشهار في خدمة الشركات الكبرى، وفي مواجهة معلنة مع المواطن/ المستهلك الذي يتحول فجأة من زبون/ ملك إلى خائن شرير. والليبرالية الاقتصادية نفسها تصبح تمشي على رأسها، وقد مسها شيء مقرف من الستالينية التي وحدها كانت تستطيع تحول سلعةٍ ما إلى رمز مقدس ل"الوطنية"، تعبيرا عن انزياح الشمولية من السياسة إلى الاقتصاد، في التجارب التي آلت إلى مقبرة التاريخ.
أعاد هذا الموقف الحكومي الموزع بين انفعالية غريبة وسكوت مريب التفكير في تقاطعات البنية الحكومية مع المصالح الإقتصادية، وما يطرحه ذلك من تضارب للمصالح.
ترتبط الملاحظة الثانية بمماطلة الشركات المعنية بالمقاطعة، ما قد يحيل في النهاية إلى كثير من السياسة ونزر قليل من الاقتصاد. وفي منطق السوق، تجاوزت المقاطعة عتبة "الضرر" الذي يستدعي بحث الرأسمال عن حلول تفاوضية مع جمهور الزبناء. لكن ربما وحده منطق الاقتصاد السياسي يفسر تعطيل هذه المماطلة.
الرأسمال هنا لا يفكر في تدبير خصومة عادية مع زبناء، لكنه يفكر في تمرين المقاطعة
في الجدل بشأن مدى تسييس المقاطعة، لا ننتبه إلى أن السلطة كانت أول من أسرع بمنحها هذه الهوية "لطبيعية في النهاية"، فعلت ذلك عندما قدمت لها أعداء نموذجيين وانتقت لها خصوما مثاليين في الصحافة والسياسية. والآن يبدو أن السياسة لا تعمل سوى على تعطيل قدرة الاقتصاد على تدبير منعرجات السوق، لانها تنظر للمستهلك وتتذكر الناخب، تنظر إلى الزبون وتتذكر المواطن.
يفكر المواطن في الأسعار وفي رمضان المقبل، لكن المقاول الذي يستعير ردود فعل السلطة لبناء تصور عن الموضوع يفكر في الخلايا الإلكترونية، وفي خلفيات الحملة وتوقيتها وفي الانتخابات المقبلة.
ربما تقدّر الشركات المعنية أن المقاطعة سياسية بالطبيعة، وقد يكون ذلك لأن أربابها يعرفون بالتجربة فضل السياسية على وجودهم الاقتصادي، وهو فضل سابق ولاحق على أي فضل آخر، ولو كان السوق نفسه.
في كلاسيكيات الاقتصاد السياسي المغربي درس قديم: الدولة لدينا لم تصنعها الطبقات، الدولة لدينا هي من صنع بورجوازيتها، فعلت ذلك منذ فجر "المغربة"، وصولا إلى ما بعد التخصيص، بما يليق من سياسات اقتصادية وضريبية ومالية.
الحكاية معقدة قليلا. ولكن يبدو أن واحدا من دروس هذا التمرين المدني هو بالضبط إعادة طرح أسئلة الاقتصاد والسياسة في مغرب اليوم.