المغرب السياسي: أحذية اليوم بأثمنة الأمس؟

16 يونيو 2020
+ الخط -
يقرّ الجميع في الساحة العمومية المغربية بأن بلاد المغرب الأقصى ما بعد رفع الحجْر الصحي الناتج عن "كوفيد – 19" لن تكون مغرب ما قبل. وأن ما سيعيشه البلد لن يختلف عن مشاهد ما بعد الحرب، وإنْ رمزيا، وما يستتبع ذلك من تحولاتٍ وصدمات. بيد أن متتبع النقاش الداخلي في المغرب سيفاجأ بأن الجديد المنتظر في البلاد لا يستلهم هذه المسلمّة المتواضع عليها جماعيا، ولا يذهب بالاستنتاج إلى مداه. بمعنى أكثر تدقيقا، الأجوبة التي يستمع إليها الملاحظ، أو متتبع الشأن العام، تبدو له قادمةً من سجلٍّ سابق عن الزلزال الذي ضرب العالم، ومنه المغرب.
أولا: يشعر المغاربة أن البنيان الاجتماعي الذي كانوا يعيشون فيه، جزء كبير، إن لم يكن الأكثرية الساحقة منهم، كشف عن ملايين الأسر التي تعيش على عتباتٍ قريبةٍ من الفقر والهشاشة واللااستقرار الاجتماعي. وهناك من يتكلم عن انهيار شامل للمنظومة الاجتماعية الاقتصادية، من مؤشراته أن قرابة ستة ملايين، من أصل ثمانية ملايين أسرة مغربية، في حاجة إلى دعم ورعاية مباشرين من الدولة. ويستفاد من أرقامٍ تقدّم بها وزير الداخلية نفسه أمام البرلمان أن قرابة 18 مليون مغربي ومغربية في ظروف هشاشةٍ قصوى يعيشون على مردودية اقتصاد غير مهيكل، لا يخضع لكل إجراءات التعريف الاقتصادية المجدية، ومخططاته ومنظماته. وهي أرقامٌ مهولة، في بلادٍ أعلن ملكها، بكل وضوحٍ وجرأة، عن قصور النموذج التنموي فيها عن تحقيق المطلوب منه، واستنفاده كل احتياطه من الأجوبة على مشكلاتٍ كبرى تهزّ كيانه، من قبيل البطالة والعجز التعليمي والنقص الصحي، والوقوف دون استفادة ملايين 
المغاربة من نتائج الثورة البنيوية التي قادتها الدولة في العشرين سنة الأخيرة، في تجديد البنيات التحية، وتطوير المنظومة البنكية وتوسيعها، والانفتاح على السوق العالمية، وتسريع وتيرة التصنيع التصديري، والمشاريع الكبرى في الطاقات المتجدّدة باحتضان أكبر مركّب للطاقة الشمسية في العالم، والدخول إلى تكنولوجيا تصنيع الطيران.. إلخ.
وكانت هشاشة النموذج قد تمت رسميا قبل الجائحة الحالية بقرابة سنتين، على الأقل، وهو ما يطرح تعميق الهوّة والضعف والأزمة، بعد ما نتج عن ضربات الوباء. وصار من نافل القول أن تسمع أن الهوة الاجتماعية والفوارق الطبقية عادت إلى أصلها التناحري، وأن المستقبليْن، القريب والمتوسط، قبل البعيد، ينبئان بظروفٍ شاقة للغاية، لم يسبق للمغرب أن عاشها. ما يطرح، استنتاجا أوليا، تغيير طبيعة الدولة إلى دولةٍ حاميةٍ واجتماعيةٍ عادلة، تعيد توزيع الثروات.
مقابل ذلك، تبين أن النسيج الاقتصادي الذي تضرّر بفعل تجربة طويلة في الريع والتهرّب الضريبي، وتحجيم رقعة الوعاء الضريبي، وعجز نظام الجبايات عن توفير ماليةٍ قويةٍ للدولة، ذلك كله صار يطرح مهامّ جديدة وعالية على الدولة المغربية، لضمان التدريس والصحة والشغل والتنمية والتطور التكنولوجي، وكل البرنامج الذي زاد الضغط الناتج عن الفيروس المستجد من ثقله وملحاحيته.
وتذهب التوقعات الأكثر تفاؤلا لدى المؤسسات الوطنية في التخطيط، كما في توقعات البنك وصندوق النقد الدوليين، وغيرهما من مؤسسات التنقيط الدولية وهيئات التمويل، إلى ما يفتح الباب لقطائع عديدة في العقيدة الاقتصادية للدولة، ولتوجهاتها في المستقبل، في مرحلةٍ بعيدةٍ وفي تدبير خصاصها، وديونها وقدرتها على التحمّل والنجاعة في تدبير إقلاع اقتصادي، أو إنقاذ اقتصادي في سياق عاصف، في مرحلة مستعجلة! في الوقت ذاته، يواجه المغرب سؤال الانتخابات التشريعية والجماعية، لإنتاج نخب الحكومة وتحريك الحقل السياسي وإدارة التنشيط المؤسساتي، ضمن توازن السلطات وهندسة الدستور الجديد، المصادق عليه غداة الربيع المغربي في فبراير/ شباط 2011. ويتزامن هذا، في المضمار الدستوري، مع راهنٍ يستوجب الملاحظات التالية:
البناء المؤسساتي، والذي يعد نتيجة الدستور المذكور، متقدّما في فلسفته وفي تفاعلاته مع مطامح الحالة السياسية التي أعقبت الربيع العربي، وتزامنت معه، من جهة، ومتجاوبا، من جهةٍ ثانيةٍ مع المكاسب التي تهيكلت بناء على تراكمات المنجز السياسي والحقوقي والمؤسساتي في المغرب، منذ مطلع العهد الذي بدأ مع الملك محمد السادس في 1991: طي صفحة سنوات الرصاص والاعتقالات والتصفيات بعدالة انتقالية ومصالحة وطنية، حل إشكال التوتر اللغوي والمصالحة مع التعدّدية اللغوية وترسيم الأمازيغية دستوريا، فتح الباب لتطور وضعية المرأة والاجتهاد القانوني والديني المفتوح فيها، ترسيم المراقبة المالية من خلال مؤسسة المجلس الأعلى للحسابات، مأسسة السلطة القضائية، مأسسة المنهجية الديمقراطية بتعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي حصل على أغلبية الأصوات في الانتخابات التشريعية .. إلخ.
ما زال هذا البناء الناجم عن دستور 2011 هشا في ممارساته، وهو بناءٌ مبنيٌّ، في جوهره، على وجود أغلبية ومعارضة، وتستوجبان الاستمرارية والتداول على الحكومة .. وبما أن 
الفرز، نظام الانتخابات وتوازنات التحالفات، ليس دوما قويا وصلبا، فإن النتيجة تكون أن هندسته العملية من الأصل هشّة، وممارساته تزيد من الهشاشة، كما يتضح عند بناء تحالفات الحكومة، وعند تدبير الوضعيات الصعبة. ومن نتائج رد الفعل الأولي لهذه الهشاشة أن كل نقاشٍ يُنظر إليه كما لو أنه يهدّد هذه الهندسة، أو يسبب شعورا بخوفٍ لا منبع له، لا يجد دوما عمقه المؤسساتي عندما نمحصه. ومن مظاهر هذه الهشاشة والخوف أنه كان كافيا أن يصدر مقال واحد عن مدير يومية مغربية، من بين يومياتٍ عديدة، لكي يهتز البيت السياسي برمته، وتخرج المعارضة والأغلبية لكي ترفض بالجملة والتفصيل أي حديثٍ عن حكومة تكنوقراطية، أو حكومة كوماندو (؟) لتدبير مرحلة التخوفات الكبرى التي تم رصدها أعلاه، اقتصاديا واجتماعيا. والحال أنه لا سند دستوريا للحكومة التكنوقراطية سوى هشاشاته المشار إليها في الممارسة.
وكان كافيا أيضا أن الحديث عن الهشاشات الكبرى، على غرار تدبير المصالحات الكبرى درءا للانفجارات الاجتماعية الكبرى، عبر شكل سياسي جديد للحكومة أعاد طرح توجس ما قبل دستوري حول احترام "المنهجية الديمقراطية"، تلك العبارة البليغة التي نحتها الفقيد عبد الرحمن اليوسفي، ليعبر عن وضع سياسي ضيق بين الدستور السابق وصلاحية الملك فيه وبين السياسة، وصلاحية صناديق الاقتراع فيها. وكان كافيا أن تصدر عن حزب حكومي دعوة إلى حكومة تحالف وطني، لكي تتحرّك الأغلبية والمعارضة لرفض الفكرة من الأصل، واعتبارها خروجا عن هذه المنهجية الديمقراطية التي دفع ثمنها غاليا الحزب الذي يدعو الى الحكومة الوطنية: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. والحال أن "الحكومة الوطنية" (الرئيس الفرنسي ماكرون يتحدث عن وفاق وطني) يمكن رفضها، وإن كانت من داخل المؤسسات الحزبية نفسها، من دون أن يصطخب النقاش ويقترب من التكفير الديمقراطي!
لماذا إذن المشهد بهذه الهشاشة، وما هي المضمرات الكامنة، في جرّ نقاش مستجد في السياسة إلى شبكة قراءة قديمة، تتيح الطمأنينة أكثر، عوض الذهاب إلى عمق الأشياء، وما قد تستوجبه الأزمات المقبلة؟ لا تبدو الحسابات واضحة في تقديم الأجوبة السابقة عن الأزمة، عن الأسئلة المتفرعة عن الأوضاع التي ستحُلُّ بعد الأزمة. ويكمن المضمر في التحليلات التي تدعو إلى تدبيرٍ مختلفٍ للمرحلة في العناصر التالية:
أولا: مركزية المؤسسة الملكية في إيجاد الجواب الأمني والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، لتيسير حال الطوارئ والتماسك الاجتماعي، حيث إن سلطة أمير المؤمنين أقنعت المغاربة بإغلاق المساجد، وصدرت الفتوى باسم هذه الإمارة من خلال المجلس العلمي الأعلى، وسلطة رئاسة الأركان والقيادة العليا للقوات المسلحة أخرجت الجيش لضمان احترام حالة الطوارئ الصحية، كما وفرت السند الصحي من خلال الطب العسكري الذي راكم تجربة قوية في تدبير الأزمات داخليا وخارجيا، في أفريقيا والشرق الأوسط، من خلال المستشفيات الميدانية. ورئاسة الدولة استعملت سلطاتها ومركزيتها والكاريزما الشخصية، من أجل فتح باب التضامن الواسع وتدبير موارد الصندوق الخاص بكوفيد 19، لإيجاد حلول للمقاولات الصغرى والأجراء وضحايا توقيف عجلة الاقتصاد والعائلات الفقيرة… إلخ، في حين ظلت الحكومة، من بعيد، تدبر وقليلا ما تبادر.
ثانيا: يجول في منصّات التفكير السياسي في قيادات الأحزاب والهيئات سؤال بالكاد يتقدّم بقناع: أي شكل سياسي ومؤسساتي سيتخده التكافل الوطني واللحمة الوطنية والعمل المشترك، من بعد، بشكل يجعل الجميع يقوم بترصيد هذا النجاح ورسملته، ولا يدخل منطق "المناقصات" السياسية التي تفيد هذا الحزب دون ذلك؟
ثالثا، ينبثق السؤال المنطقي: هذا المنجز الوطني، هل يحق للأحزاب الحاكمة، أو الأغلبية 
الحالية أن تسوغه لنفسها، وتذهب به إلى الانتخابات وحدها، وتنسبه إلى نفسها كليا، في وقت يعتبر ثمرة شراكة مجتمعية ومؤسساتية، تتجاوز التقسيم العادي للعمل داخل الحقل السياسي؟
رابعا: هشاشة الصورة التي تبعثها الحكومة نفسها بكل مكوناتها، ويتمثل هذا الضعف في أن الوزراء الذين تعود إليهم تدابير التخطيط والتنفيذ والمتابعة هم، في أصلهم أو في موقعهم، غير تابعين لأية هيئة سياسية، تشكل الحكومة، فالوزراء الأكثر حضورا في المتابعة هم وزيرا الداخلية والصحة، (غير منتميين حزبيا) ووزير المالية والوظيفة العمومية والاقتصاد (التحق بالجهاز التنفيذي عن طريق حزب التجمع الوطني للأحرار، بدون سابق انخراط سياسي يسبق دخوله الحكومة، والشيء نفسه بالنسبة لوزير الاقتصاد الرقمي الذي ينتسب إلى الحزب نفسه).
ويزداد ضغط الأسئلة، مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي تشغل بال السياسيين أكثر من المواطنين الذين يتحدثون عن القوت اليومي، واستقرار مناصب الشغل والمعيش اليومي والكلفة المقبلة للأزمة الاجتماعية. وعن هذه النقطة، تدر مراهنات الربح والخسارة بنسبة تفوق نسبة الجدوى أو القيمة المضافة للحقل السياسي، وتوضيح الخيارات التي ستضطر لها الدولة غدا. وجزء من الطبقة السياسية، يحسب الفرصة سانحة وصالحةً، لكي يتم تقديم موعد لترسيخ ضعف الحكومة والحزب الذي يقودها. وهناك من يرى أن الموعد يجب أن يظل في وقته، احتراما لدورية البرلمان، وأيضا لإنضاج محاكمة الحكمة. وفي الغالب، يتفق جزء من المعارضة مع جزء من الحكومة على إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى حين هذا التاريخ.
وكان لافتا أن المعارضة اصطفت إلى جانب الحزب الذي يقود الحكومة ضد كل فكرةٍ سياسيةٍ قد تغير من المعطى الحالي. وكان لافتا أيضا أن المعارضة، في هذه النقطة بالذات، تشكل درعا سياسيا لرئيس الحكومة، إلى حين حلول موعد الانتخابات. كل هذه المعطيات لا يبدو أنها تعطي تبريرا معقولا للمواطن المغربي الذي لا يعرف بأي حطبٍ سيشعل نار موقده غدا، بقدر ما يبدو أننا أمام احتماء بأجوبة قديمة لأسئلة جديدة، تحرق الأعصاب والأدمغة، وأمام طريق ضبابه كثيف، تذكّرنا بعبارة بليغة للشاعر العُماني عبد الله الريامي، في أحد دواوينه يتحدث فيها عن "أحذية اليوم بأثمنة الأمس"… وما أمس الحاجة إلى لمسة شعرٍ تبدد هذا الضغط "الكورونو- سياسي".
768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.