المغرب.. التعليمُ العمومي وقميصُ عثمان

20 يونيو 2019
+ الخط -
كان لتراجع دور الدولة المغربية في القطاعات الاجتماعية الحساسة أثرٌ دالٌّ في تنامي الحركات الاحتجاجية، واتساع رقعتها، ونزوعها المتزايد نحو تجاوز قنوات الوساطة التقليدية، وارتكانها إلى أساليب جديدةٍ في الاحتجاج. وإذا كانت هذه الحركات تساهم في استثارة النقاش العمومي، وتحفيزه بشأن السياسات العمومية المتبعة، وتأثيرها على السلم الاجتماعي، فإنها، في الوقت ذاته، تصبح مصدرا لتشكّل ما يعرف، في الاجتماع السياسي، بجماعات المصالح أو الضغط التي تستهدف حماية مصالح مكوّناتها الاجتماعية والطبقية والسياسية، من خلال التأثير في سياسات الدولة، وتوجيه مساراتها لخدمة هذه المصالح.
مناسبة هذا الكلام الإضرابُ الذي يخوضه طلاب كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان، احتجاجا على خوصصة التكوين الطبي العمومي، وفتح المجال أمام طلاب كليات الطب الخاصة لاجتياز مباريات الداخلية (الإقامة) والاستفادة من فترة تدريبٍ في المستشفيات الجامعية العمومية.
يستقيم ظاهر الخطاب، هنا، على اعتبار أن مشروع الحكومة سيفضي إلى بروز "لوبي" طبي، تُشكل الكلياتُ والمصحاتُ الخاصةُ أضلاعه الأساسية، ما يؤدي إلى ضرب أحد الأعمدة الأساسية للتعليم العمومي، فضلا عن ضرب هذا المشروع مبدأ تكافؤ الفرص الذي يُفترض أنه يؤطّر هذا التعليم بمختلف أسلاكه. ولكن وقفة بسيطة تكشف أن الحقيقة مغايرة للمرتكزات التي يستدعيها طلاب كليات الطب العمومية في ملفهم المطلبي، فإذا كانوا ينتقدون مشروع الحكومة لخوصصة التكوين الطبي العمومي، فكثيرون منهم، إن لم يكن معظمهم، درسوا في ثانويات "خصوصية!"، ونجحوا في الالتحاق بكليات الطب العمومية، بفضل المعدلات العالية التي تمنحها هذه الثانويات، فأي مفارقةٍ تلك التي ينطوي عليها قبولُ خوصصة التعليم في شقه الابتدائي والثانوي، ورفضه، في الوقت نفسه، في دراسة الطبّ.
والشيء بالشيء يُذكر، فقبل أربع سنوات، رفض طلاب كليات الطب والصيدلة، آنذاك، مشروعا تقدّمت به حكومة عبد الإله بنكيران بشأن الخدمة الصحية الوطنية التي تلزم هؤلاء، بعد تخرّجهم، بالعمل سنتين في المناطق النائية (المغرب غير النافع!)، والتي لا علاقة لها بالمدن والحواضر الكبرى التي يفضل هؤلاء تعيينا مريحا فيها، لما يفتحه ذلك أمامهم من آفاق الترقي الاجتماعي السريع. وقد كان لاستجابة الحكومة لضغوط هؤلاء، وسحبها المشروع تداعيات اجتماعية كثيرة، تُختزل، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، في استمرار حرمان قطاع واسع من المغاربة القاطنين في المناطق القروية والنائية من حقهم المشروع في الخدمة الصحية العمومية، في ظل الخصاص المهول الذي تعاني منه هذه المناطق في الكوادر الطبية، ما يسهم في تعميق أزمة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والمجالية في هذه المناطق.
يُفضل معظم خريجي كليات الطب العمومية العمل في المصحّات الخاصة التي تستنزف جيوب المغاربة في ظل تردّي الخدمات الصحية العمومية. وقد لا تكون مبالغة في القول إن أطباء مغاربة كثيرين تحولوا إلى ما يشبه الطبقة الاجتماعية، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، إلى حدٍّ ذهبت فيه جمعية ''أوكثي'' الإسبانية، في تقريرٍ لها صدر قبل شهور، إلى أن إسبانيا أصبحت وجهة مفضلة لتهريب الأموال، بالنسبة لأثرياء مغاربة، بينهم أطباء كثيرون.
من هنا، التباكي على التعليم العمومي، وتوظيفه في ملفاتٍ اجتماعية فئوية بدون أفق وطني يستوعبها ويعيد صياغتها وربطها بالانتظارات الكبرى للمغاربة، لن يفضي إلى شيءٍ عدا تعميق أزمة منظومة التربية والتكوين المغربية، وزيادة انتكاساتها.
لا دفاع هنا عن الحكومة التي يقودها الإسلاميون، فلعلها الأسوأ في تاريخ المغرب في ضربها المكتسبات الاجتماعية للطبقة الوسطى، وإصرارِها على تحميل الأخيرة عبء الالتزامات المالية للدولة إزاء المنظمات الدولية المانحة، ولكن ذلك لا ينبغي أن يحول دون النظر، بموضوعية، إلى الجيل الجديد من الحركات الاحتجاجية في المغرب، وطبيعة الموارد التي تعمل على تعبئتها وتصريفها ضمن مطالبها، والحدود الفاصلة بين الفئوي والوطني في هذه المطالب، أو بمعنىً أصح الحدود التي تفصل بين ثقافة الريع والامتياز، ومبادئ الحق وتكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون.
أصبح الدفاع عن التعليم العمومي في المغرب مثل قميص عثمان الذي يُطالب به الجميع. ولكن للأسف ضمن مطالب تتغيا، في أحيانٍ كثيرة، تحقيقَ مصالح اجتماعية فئوية وضيقة، لا علاقة لها بأي مشروع حقيقيٍّ وجادٍّ للإصلاح.