يعزو كولن ولسون الدافعَ الرئيس للرواية إلى "ضرورة إحداث واقع مرغوب فيه". ويوضّح في كتابه "فن الرواية" مخاطبًا الروائي وبالتالي محدّدًا وظيفة فنّه: "إسقاط صورة للحياة التي تهوى أن تعيشها، ونمط للإنسان الذي تريد أن تكونه". يحدّد هذان القولان المساحة التي يتحرّك فيها الكاتب؛ إنّها تبدو صورة قادمة من المستقبل، من الآمال الواسعة المشرقة للغد. لكن كيف لكاتب حبيس الواقع الماضوي أن ينظر صَوب الآتي ولا يراه قاتمًا؟
قبل أن تتدافع الكلمات كي تخرج من مخيّلة الكاتب إلى أوراقه، فإنّها تعبر آلته السردية، وهو، هناك، إمّا أن يلوي هذه الكلمات ويقسرها على أيديولوجيا خاصة أو يتركها منفعلة حرّة عاطفية. لكن إلى أين يلتفت ذلك الكائن السردي الذي يصنعه الكاتب، ما إن يضبطه المؤلّف ويدفع بهِ إلى الوجود، كيف يسير ذلك الكائن، أيعبر الواقعَ نحو الماضي ليغرق بآلامهِ وحسراتهِ وثاراته، أم يعبر الواقعَ صَوب المستقبل الذي قد يحمل رغبات جديدة محقّقة، ومع أي تصوّر يكون الكاتب قد حمّله إياه تجاه الغد؟
إنّ ثمة سؤالًا محدّدًا يختصر الوجهة، أيهما صنع ولاء الكاتب، المقيّد بواقعه، الماضي أم المستقبل؟ كان السؤال ليبدو بسيطًا لولا أنّ الواقع العربي واقعٌ متفجرٌ وخارج عن المألوف، المستقبل فيهِ يتوالد بصورة ممسوخة عن الماضي، حتى ليبدو مجدُ العربي، ضمنًا الذاتي منهُ والمرتبط بالأفراد، يبدو مجدًا غابرًا لا سبيل إلى إحيائهِ، طالما أنّ حروبًا تنجبُ حروبًا، وقتلًا ينجبُ قتلًا، فالرؤساء يتوارثون، والقتلة يتوارثون والضحايا يتوارثون.
بالتالي، لو قرأنا بعض العناوين الناجحة في السنوات الفائتة لوجدناها روايات ديستوبيا تحاكي المستقبل، مثل "عطارد" للمصري محمد ربيع، "حرب الكلب الثانية" للفلسطيني إبراهيم نصر الله، و"فرانكشتاين في بغداد" للعراقي أحمد سعداوي (2014)، والتي تقرأ واقعًا قائمًا، المستقبل فيه هو جثّة الماضي، إلّا أنّ سعداوي يبعث الروح في تلك الجثة لتنطلق وتحاكم صانعيها. من خلال تجربة الكتابة وصل هؤلاء الروائيّون إلى تصوّر عن العالم المحتمّ. فالغد يحمل بذار الماضي، هذه حقيقة، مثلما هي حقيقة أنّ مجموعة من الأحرف تكوّن كلمة ومجموعة من الكلمات تصنعُ جملة.
لربما ينطوي قول ولسون على جانب من التفاؤل، إذا ما أردنا قراءتهُ من زاوية مشرقة؛ إذ يجد أيٌّ منّا أنّه يضمرُ في جانب منهُ نداءً للعدالة، فيما يخص شعبًا مضطهدًا، ونداءً للحرية فيما يخصُ سجين رأي، ويضمرُ خلاصًا للطاغية من نفاد بطشهِ، إن كان لبطش الطاغية من نهاية.
إلا أنّ هذا الاستنتاج ينبئ بنصوص يخضع فيها الواقع إلى قوانين الفن. لا العكس، إذ طالما خضع الفن لقوانين الطبيعة الحية، لا تلك التي حرّفتها آليات الإخضاع والاستبداد والسيطرة.
فما إن يكسر، نصٌ ما، حلقة تناسخ الماضي، فإنّه يبني حجرًا في هيكل شاسع يكاد يكون فارغًا، يخرج فيهِ الكتّاب بتصوّر مغاير لما كرّستهُ عقود القمع السياسي وقمع الحريات والطغيان الديني، لربما تتضافر نصوص أُخرى وتنقل قارئها إلى الشرفة كي يطلّ على الحياة عوضًا عن تثبيتهِ في قبو مظلم في انتظار نداء ملاك الموت. أيكون الفن تلك الأداة التي يمسك بها الكاتب، فيما ينحني أمام حاسوبهِ، يكتب ويكتب وفي ذهنهِ أن يترك أثرهُ البسيط المتراكم في جدار شاهق صلدٍ ومغلق يعزل الإنسان عن الحب والحرية؟!
* كاتب سوري