14 ديسمبر 2017
المعضلة الليبية في سياق الأزمة الخليجية
نزار كريكش
ما إن أعلنت السعودية والإمارات والبحرين مقاطعة دولة قطر، ومحاصرتها جوا وبرا وبحرا، حتى تناثرت أحداثٌ تبدو متباعدةً، لكنها انعكاس لوضع دولي وإقليمي مضطرب. بدأ الأكراد في العراق يبحثون عن استفتاء للاستقلال عن العراق، أعلنت تركيا أنها سترسل قوات عسكرية إلى قطر وفق اتفاقيةٍ مسبقة، كما أعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن مسؤوليته عن الأحداث الدامية التي شهدتها إيران، ربما لإغراء الأخيرة بالسعودية، ثم بدأ الحديث عن قصف مستمر لقوات الجنرال خليفة حفتر منطقة الصابري في بنغازي ودرنة، مع إعلان حكومة الشرق الليبي مقاطعة قطر، واتهام لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) أنها وراء الدعم العسكري لمجلس شورى بنغازي. وفي الأثناء، صدر تقرير لجنة العقوبات في الأمم المتحدة، ويؤكد تقارير سابقة عن "خرق حظر توريد السلاح المفروض على ليبيا، وتزويد تشكيلات مسلحة معينة بالسلاح". وفي التقرير أن الإمارات قدمت مساعدات عسكرية لقوات خليفة حفتر. واللافت هو التأكيد أن هذا الخرق لا يحمل أدنى شك، فهو ثابت بالصور والوثائق والمقابلات التي أجرتها لجنة العقوبات، كما أن التقرير يؤكد أن هذا الدعم ألحق ضرراً بالغاً بالمدنيين، كما أنه تسبب في إطالة أمد النزاع والصراع في ليبيا.
ويؤكد هذا السياق أن هذه المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط مجال استراتيجي واحد، فلا وجود لحواجز طبيعية، تفصل بين دول هذه المنطقة، كما هو الحال في أوروبا، وأن حجم تداخل المصالح بين الدول العربية، في غياب اتفاقاتٍ ملزمةٍ تنظم سيادة الدول في هذه المنطقة، قد أدى إلى صراع بشأن سؤال من هي الدول المركزية في المنطقة، ومحاولة هذه الدول الامتداد في فراغ الأزمات. سيستمر هذا الأمر، ما لم يكن هناك إدراك أن التدخل في شؤون الآخرين رذيلةٌ تماماً، كما أن مساعدة الآخرين من دون الرغبة في ارتهان إرادتهم لا يبتعد كثيراً عن عالم السياسة، ولا شك في أن المعضلة الليبية، كما نحب أن نسميها، ستعاني كثيراً مع وجود أزمة جديدة في المنطقة: أزمة الخليج.
شمال أفريقيا والشرق الأوسط
على الرغم من أن الاستراتيجي البحري الأميركي، ألفريد ثاير ماهان، انتبه إلى صراع
الإمبراطوريتين، البريطانية والروسية، على النفوذ في وسط آسيا، ذلك التنافس الذي صار معروفاً باسم اللعبة الكبرى، استوعب ماهان منه ليس فقط الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، بل أيضاً عرف مركزها، وهو الخليج العربي. وعلى الرغم من أن شمال أفريقيا قد ينفصل عن الشرق الأوسط في بعض تعريفاته، إلا أن المنطقة التي فيها مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس استراتيجية، تمر عبرها الملاحة الدولية التي تربط بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. ويمكن فهم العلاقة بين ما يحدث في الخليج والأزمتين، السورية واليمنية، بأن شمال أفريقيا هو البديل الذي تتوجّه إليه الدول، في حال استمر هذا الصراع في هذه المناطق المهمة في التجارة الدولية، وأن ليبيا ستكون الممر للغاز واليورانيوم والنفط، وكذلك ممرٌ لتصدير 60% من الواردات الأوروبية، وهكذا ما أن تشتكي دول الخليج والشام، حتى تلجأ الدول إلى شمال أفريقيا. وبالطبع سيكون هناك تنافس حول استمرار استيراد الغاز من روسيا إلى أوروبا، ومحاولة استمرار الهيمنة الفرنسية على اليورانيوم في جنوب ليبيا، لأنه يوفر اليورانيوم الذي تستخدمه فرنسا في توفير الطاقة الكهربائية. ولتأمين باب المندب، وكذلك الاستمرار في الاستثمارات في وسط أفريقيا، وقرنها سيفسر ذلك الوجود الكثيف للمملكة السعودية والإمارات وتركيا وفرنسا، وكذلك الصراع الإيراني السعودي الذي استمر طوال فترة نظام معمر القذافي بشأن السودان وممر بور سودان لتصدير النفط.
لذا، تؤكد شبكة بلومبيرغ، في تقاريرها التي تبعت أزمة الخليج أخيرا، أنه لا ينبغي إهمال مضيق هرمز في هذه الأزمة، وينبغي أن نعلم أن الغاز هو المجال الاستراتيجي الأكبر في القرن الحادي والعشرين، وبما أن آسيا هي المستورد الأكبر للمواد البترولية، وأن أوروبا تراجعت نتيجة عوامل ديمغرافية واقتصادية، فإن التنافس الحقيقي هو حول القوة الاستراتيجية للسعودية والإمارات، وأن الميزة التنافسية للغاز ستعطي لقطر استمرارية في توريده، وكذلك استدامة التدفق المالي، فعقود الغاز تمتاز بأنها أكثر ثباتا وعقودها طويلة الأجل، وأن أنابيب الغاز تحتاج استقراراً أكثر من النفط الذي يعاني العالم من تخمةٍ في إنتاجه.
ليبيا لا تتسول ولا تتوسل
على الرغم من أن الثورة الليبية تميزت بتدخل دولي، لم تشهده باقي الدول العربية، وكان هناك قرار من جامعة الدول العربية بدعم قراري مجلس الأمن الدولي، الحظر الجوي على ليبيا، وحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا. وجاء في ذلك التقرير إن "انتشار الأسلحة من ليبيا يستمر بمعدل مثير للانزعاج"، لكن هذا الإزعاج استمر، فقد توالت التقارير التي تؤكد دعم كل من
مصر والإمارات الجنرال خليفة حفتر في الشرق الليبي، على حساب الأطراف الأخرى. وقد شكل هذا الدعم خللاً استراتيجياً أطال أمد الصراع، فلا تزال الطائرات المصرية والإماراتية تنال من المدنيين. وبما أن الأطراف الأخرى في الغرب الليبي لا تملك هذه الطائرات، وأنها تستعمل الأسلحة التي توفرت في أثناء الثورة الليبية، سواء الدعم العسكري الذي حصل عليه الثوار إبّان الثورة من الدول الداعمة، عربية وغربية، أو التي جاءت من الحكومات المتعاقبة. وعلى الرغم من أن التقارير الدولية تذكر تركيا وقطر، خصوصا إبان الثورة، إلا أن التقارير التي صدرت عام 2014 لم تجزم بدعم تركي أو قطري، إنما عرضت صوراً وحقائق تؤكد الدعم الإماراتي بالمال والسلاح. وقد أكد التقرير الذي صدر أخيرا هذه الحقيقة، بل ظهرت عدة وثائق، تؤكد بالأرقام توفير كميات كبيرة من المال، للجنرال خليفة حفتر، وهي تقدم مباشرة له، ولابنه صدام خليفة حفتر، من دون المرور بالآليات المتعارف عليها في الدعم بين الدول.
يؤكد هذا الإصرار دعم بعض الأطراف في الشأن الليبي أن تفكّك النظام الدولي، في ظل غياب إدراك من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أهمية هذا النظام في السلوك الخارجي للدول، كما بينت مجلة فورين أفير، في عدد يونيو/ حزيران الحالي، وعنوانه "تحطيم الحاضر- ترامب على المحك"، فإن دول المنطقة صارت تبحث عن نفوذٍ لها خارج حدودها، من دون أن تكون لها القوة الاستراتيجية الكافية لهذا التمدّد. لذا يستمر التدخل من دول، كالسعودية والإمارات، لاستبطان الأولى أنها دول مركزية، وعدم قدرة الثانية على الوصول إلى تموضع استراتيجي صحيح، بعيداً عن التدخل في شؤون الآخرين.
استطاعت الإمارات ومصر نشر تلك السردية التي تتخذ حصان طروادة في التدخل في شؤون الآخرين: الإرهاب والإسلام السياسي. وبدأت في تكوين عدة قنوات إعلامية خارج ليبيا وداخلها، ودعمت شخصيات كثيرة مناوئة للتيارات الإسلامية، ومن دون إدراك للسياق التاريخي للمجتمع الليبي، تحول المشهد الليبي إلى احتراب داخلي، تحول، بعد ذلك، إلى حرب بالوكالة، فإن مصر، وبدعم إماراتي، تحاول أن تتحكم في القرار الليبي، عبر دعم الجنرال خليفة حفتر في الشرق. لذا فإن الاتفاق السياسي الذي وصلت إليه الأمم المتحدة في 2015 لم يحل المعضلة الليبية، لأنه على الرغم من توقيع مجلس النواب في الشرق والمؤتمر الوطني في الغرب الليبي عليه، ظل استمرار التأثير الخارجي عائقاً كبيراً أمام تطبيق بنود الاتفاق.
السياق الليبي للأزمة
تتفق أدبيات الحروب الأهلية على تناقص معدلها بعد الحرب الباردة، ويرجع بعضهم ذلك لغياب التنافس بين القوتين داخل الأنظمة السياسية للدول. لذا، يمكن القول إن تدهور النظام الدولي سمح للدول الإقليمية أن تمارس حرباً بالوكالة داخل هذه الدولة، لكن المعضلة الليبية، في سياقها الإقليمي والدولي، باتت تتأثر بالتدخل الإماراتي والمصري والرفض الجزائري والتربص السوداني والمطامع الأوروبية والحذر الروسي، ما أفقد الأزمة الليبية سياقها الطبيعي.
يكاد يكون تاريخ ليبيا في هذه الجدلية بين المطامع الخارجية والتكوين الطبيعي لمكوناتها الداخلية، وتدلنا نماذج كتب عنها مؤرخون، منهم الإيطالي أنا بالدينيتي، أخيرا، أن ليبيا نموذج للدول التي تكونت من خارجها، بعد حجم التهجير إبان الاستعمار والحرب بين القوى العظمى في الحرب الكونية الثانية. وهذا يبين أن التدخل الدولي في الثورة الليبية وافق سياقاً تاريخياً. لذا، فإن كل التدخلات تعيق التطور الطبيعي لهذا البلد، ويؤخر الاستقرار لدول السودان والجزائر وتونس، ويبدو أن محاولة تصميم النظام الليبي، وفق السياق المصري، تأتي في إطار مشروع للاستفادة من فشل الدولة الليبية للهيمنة المصرية الدائمة على المقدّرات الليبية، بدعم من دولة الإمارات، ومباركة سعودية، في إطار تصور جديد للمنطقة.
يذكر ما سبق بما كتبه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في كتابه "النظام
الدولي"، إن المنطقة تعاني من غياب مواثيق حقيقية تمنع التدخلات المستمرة من الدول التي لا تملك سياسة خارجية ناضحة، لضمور النظم السياسية فيها، كما حال دول الخليج عامة، ما يسبب حالة من الفوضى المستمرة. وإذا ما استمرت أزمة الخليج، واستطاعت دولة الإمارات والسعودية أن تكون هي الموجه للسرديات القائمة في المنطقة، فإن شمال أفريقيا سيكون المحطة القادمة للفوضى والصراعات المستمرة، فالسودان على الرغم من مصالحه الاستراتيجية مع المملكة السعودية إلا أن الرئيس السوداني، عمر البشير، وقف بقوة أمام التدخلات المصرية في إقليم دارفور. وباستمرار تدفق السلاح، والسماح لمصر بلعب دول الوكيل عن السعودية والإمارات في شمال أفريقيا، فإن أحد السيناريوهات التي تكرّرت في بيوت الخبرة هو انتشار الصراع الليبي لدول أخرى.
يؤكد فهم التكامل في المنطقة ونموذج الجسد الواحد أن العرب بحاجة لاحترام بعضهم بعضا، وأن تفاوت قوى الدول أو فشلها، نظراً لظروف الصراع، لا يعني المسارعة في إنشاء أذرع داخل الدولة الواحدة، وتأليب الناس بعضهم على بعض. أحد المؤشرات التي وضعتها مؤسسة دعم السلام للدولة الفاشلة هو هذا الانقسام داخل الدولة الواحدة، وإذا ما استمر هذا التناقض بين ما يقرّه المجتمع الدولي علناً، وما تقوم به الإمارات ومصر، من خلال دعمها المالي والعسكري طرفاً على حساب الطرف الآخر سيكون سبباً في انتشار الفوضى في شمال أفريقيا، خصوصا إذا غابت القوى الموازية، التي تتبنى سردية التغيير عبر الحكم الرشيد، ما سيسمح بانتشار الإرهاب وامتداده من سيناء إلى ليبيا إلى مالي، ومنه إلى الصحراء، عبر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب.
احترام النظام والقوانين الدولية ومبدأ حسن الجوار، فضلاً عن احترام تراثنا الثقافي والديني، هو العاصم الوحيد لليبيا من استمرار التدخلات الخارجية، والتدخلات التي صاحبت الثورة لا تعني أن ليبيا غنيمة لكل من يريد أن يمد قوته أو يصدِّر مشكلاته الداخلية، فإن شعب ليبيا، بعمق تاريخها وجغرافيتها المعقدة، حين ثار، لم يكن يطلب من أشقائه سوى أن يكفر عن خطاياه في ترك القذافي يحكمه أربعة عقود، وأنها حين طلبت المساعدة، لم تكن تتسول أو تتوسل.
ويؤكد هذا السياق أن هذه المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط مجال استراتيجي واحد، فلا وجود لحواجز طبيعية، تفصل بين دول هذه المنطقة، كما هو الحال في أوروبا، وأن حجم تداخل المصالح بين الدول العربية، في غياب اتفاقاتٍ ملزمةٍ تنظم سيادة الدول في هذه المنطقة، قد أدى إلى صراع بشأن سؤال من هي الدول المركزية في المنطقة، ومحاولة هذه الدول الامتداد في فراغ الأزمات. سيستمر هذا الأمر، ما لم يكن هناك إدراك أن التدخل في شؤون الآخرين رذيلةٌ تماماً، كما أن مساعدة الآخرين من دون الرغبة في ارتهان إرادتهم لا يبتعد كثيراً عن عالم السياسة، ولا شك في أن المعضلة الليبية، كما نحب أن نسميها، ستعاني كثيراً مع وجود أزمة جديدة في المنطقة: أزمة الخليج.
شمال أفريقيا والشرق الأوسط
على الرغم من أن الاستراتيجي البحري الأميركي، ألفريد ثاير ماهان، انتبه إلى صراع
لذا، تؤكد شبكة بلومبيرغ، في تقاريرها التي تبعت أزمة الخليج أخيرا، أنه لا ينبغي إهمال مضيق هرمز في هذه الأزمة، وينبغي أن نعلم أن الغاز هو المجال الاستراتيجي الأكبر في القرن الحادي والعشرين، وبما أن آسيا هي المستورد الأكبر للمواد البترولية، وأن أوروبا تراجعت نتيجة عوامل ديمغرافية واقتصادية، فإن التنافس الحقيقي هو حول القوة الاستراتيجية للسعودية والإمارات، وأن الميزة التنافسية للغاز ستعطي لقطر استمرارية في توريده، وكذلك استدامة التدفق المالي، فعقود الغاز تمتاز بأنها أكثر ثباتا وعقودها طويلة الأجل، وأن أنابيب الغاز تحتاج استقراراً أكثر من النفط الذي يعاني العالم من تخمةٍ في إنتاجه.
ليبيا لا تتسول ولا تتوسل
على الرغم من أن الثورة الليبية تميزت بتدخل دولي، لم تشهده باقي الدول العربية، وكان هناك قرار من جامعة الدول العربية بدعم قراري مجلس الأمن الدولي، الحظر الجوي على ليبيا، وحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا. وجاء في ذلك التقرير إن "انتشار الأسلحة من ليبيا يستمر بمعدل مثير للانزعاج"، لكن هذا الإزعاج استمر، فقد توالت التقارير التي تؤكد دعم كل من
يؤكد هذا الإصرار دعم بعض الأطراف في الشأن الليبي أن تفكّك النظام الدولي، في ظل غياب إدراك من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أهمية هذا النظام في السلوك الخارجي للدول، كما بينت مجلة فورين أفير، في عدد يونيو/ حزيران الحالي، وعنوانه "تحطيم الحاضر- ترامب على المحك"، فإن دول المنطقة صارت تبحث عن نفوذٍ لها خارج حدودها، من دون أن تكون لها القوة الاستراتيجية الكافية لهذا التمدّد. لذا يستمر التدخل من دول، كالسعودية والإمارات، لاستبطان الأولى أنها دول مركزية، وعدم قدرة الثانية على الوصول إلى تموضع استراتيجي صحيح، بعيداً عن التدخل في شؤون الآخرين.
استطاعت الإمارات ومصر نشر تلك السردية التي تتخذ حصان طروادة في التدخل في شؤون الآخرين: الإرهاب والإسلام السياسي. وبدأت في تكوين عدة قنوات إعلامية خارج ليبيا وداخلها، ودعمت شخصيات كثيرة مناوئة للتيارات الإسلامية، ومن دون إدراك للسياق التاريخي للمجتمع الليبي، تحول المشهد الليبي إلى احتراب داخلي، تحول، بعد ذلك، إلى حرب بالوكالة، فإن مصر، وبدعم إماراتي، تحاول أن تتحكم في القرار الليبي، عبر دعم الجنرال خليفة حفتر في الشرق. لذا فإن الاتفاق السياسي الذي وصلت إليه الأمم المتحدة في 2015 لم يحل المعضلة الليبية، لأنه على الرغم من توقيع مجلس النواب في الشرق والمؤتمر الوطني في الغرب الليبي عليه، ظل استمرار التأثير الخارجي عائقاً كبيراً أمام تطبيق بنود الاتفاق.
السياق الليبي للأزمة
تتفق أدبيات الحروب الأهلية على تناقص معدلها بعد الحرب الباردة، ويرجع بعضهم ذلك لغياب التنافس بين القوتين داخل الأنظمة السياسية للدول. لذا، يمكن القول إن تدهور النظام الدولي سمح للدول الإقليمية أن تمارس حرباً بالوكالة داخل هذه الدولة، لكن المعضلة الليبية، في سياقها الإقليمي والدولي، باتت تتأثر بالتدخل الإماراتي والمصري والرفض الجزائري والتربص السوداني والمطامع الأوروبية والحذر الروسي، ما أفقد الأزمة الليبية سياقها الطبيعي.
يكاد يكون تاريخ ليبيا في هذه الجدلية بين المطامع الخارجية والتكوين الطبيعي لمكوناتها الداخلية، وتدلنا نماذج كتب عنها مؤرخون، منهم الإيطالي أنا بالدينيتي، أخيرا، أن ليبيا نموذج للدول التي تكونت من خارجها، بعد حجم التهجير إبان الاستعمار والحرب بين القوى العظمى في الحرب الكونية الثانية. وهذا يبين أن التدخل الدولي في الثورة الليبية وافق سياقاً تاريخياً. لذا، فإن كل التدخلات تعيق التطور الطبيعي لهذا البلد، ويؤخر الاستقرار لدول السودان والجزائر وتونس، ويبدو أن محاولة تصميم النظام الليبي، وفق السياق المصري، تأتي في إطار مشروع للاستفادة من فشل الدولة الليبية للهيمنة المصرية الدائمة على المقدّرات الليبية، بدعم من دولة الإمارات، ومباركة سعودية، في إطار تصور جديد للمنطقة.
يذكر ما سبق بما كتبه وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، في كتابه "النظام
يؤكد فهم التكامل في المنطقة ونموذج الجسد الواحد أن العرب بحاجة لاحترام بعضهم بعضا، وأن تفاوت قوى الدول أو فشلها، نظراً لظروف الصراع، لا يعني المسارعة في إنشاء أذرع داخل الدولة الواحدة، وتأليب الناس بعضهم على بعض. أحد المؤشرات التي وضعتها مؤسسة دعم السلام للدولة الفاشلة هو هذا الانقسام داخل الدولة الواحدة، وإذا ما استمر هذا التناقض بين ما يقرّه المجتمع الدولي علناً، وما تقوم به الإمارات ومصر، من خلال دعمها المالي والعسكري طرفاً على حساب الطرف الآخر سيكون سبباً في انتشار الفوضى في شمال أفريقيا، خصوصا إذا غابت القوى الموازية، التي تتبنى سردية التغيير عبر الحكم الرشيد، ما سيسمح بانتشار الإرهاب وامتداده من سيناء إلى ليبيا إلى مالي، ومنه إلى الصحراء، عبر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب.
احترام النظام والقوانين الدولية ومبدأ حسن الجوار، فضلاً عن احترام تراثنا الثقافي والديني، هو العاصم الوحيد لليبيا من استمرار التدخلات الخارجية، والتدخلات التي صاحبت الثورة لا تعني أن ليبيا غنيمة لكل من يريد أن يمد قوته أو يصدِّر مشكلاته الداخلية، فإن شعب ليبيا، بعمق تاريخها وجغرافيتها المعقدة، حين ثار، لم يكن يطلب من أشقائه سوى أن يكفر عن خطاياه في ترك القذافي يحكمه أربعة عقود، وأنها حين طلبت المساعدة، لم تكن تتسول أو تتوسل.
مقالات أخرى
07 نوفمبر 2017
04 أكتوبر 2017
26 سبتمبر 2017