المعجم الإلكتروني العربي

16 ديسمبر 2015

من المهم بمكان إحداث معاجم إلكترونيّة عربيّة متطوّرة (Getty)

+ الخط -
في عصرٍ أصبحت فيه الوسائط الرقميّة المتعدّدة حمّالة معارف، وانفتحت فيه الحضارات بعضها على بعض، في حالة من التّثاقف الفوري المباشر غير المسبوق، عبر صفحات الويب ووسائل الاتّصال عن بعد وأجهزة التّفاعل البيني الإلكترونيّة، أصبح بذل الجهد في مجال حوسبة اللّغات الطبيعيّة ومعالجتها آليّا أمراً ضروريّا ومشروعاً حيويّا، تنافست الأمم في إنجازه ضمن ما يُسمّى المجتمع الشّبكي. وبلغت الدّول المتقدّمة شأواً معتبراً في مستوى توظيف التّقنيات الرّقميّة في خدمة أنظمتها اللسانيّة ووحداتها اللّغويّة ومعارفها القديمة والمستجدّة، فجرى إنشاء بنوك المصطلحات، والمكتبات الرقميّة، ومحرّكات البحث، ومواقع التّرجمة الآليّة والتعلّم عن بعد.
وتُعدّ المعاجم الإلكترونيّة من أبرز تجلّيات المعالجة الآليّة للّغات الطبيعيّة، ومنْ أهمّ الوسائط المعتمدة في حفظ الذّاكرة اللغويّة لأمّةٍ مَا، وتحيينها وتطويرها لتواكب حركة الانفجار المعلوماتي الهائل، ونسق الدّفق المصطلحي المتسارع في مجتمع المعرفة. وقد سبقتنا الدّول الصاعدة، مثل بريطانيا وفرنسا وكندا، في إحداث قواعد بيانات رقميّة، تجمع مئات المعاجم الإلكترونيّة التي تضمّ الرّصيد المصطلحي، والمنجز التّعبيري واللّساني لتلك المجتمعات، وهي معاجم محوسبة متنوّعة متطوّرة، قابلة للتّحميل والتّحيين والتّداول على الشّبكة، وهي شاملة مختلف مجالات المعرفة. حتّى أنّنا نجد أشهر المعاجم الإنجليزيّة والفرنسيّة الرّائدة، من قبيل أكسفورد وكمبردج ولاروس، في متناول متصفّحي الإنترنت، ويمكن الوصول إلى محاملها اللّغويّة العامّة والخاصّة في ثوان معدودة.
ويمكن التّمييز بين أصناف مختلفة من المعاجم الإلكترونيّة، بحسب المقياس المعتمد في التّمييز بينها. فإذا اعتمدنا معيار اللّغة، نجد معاجم إلكترونيّة أحاديّة اللّغة، ومعاجم إلكترونيّة ثنائيّة اللّغة، وأخرى متعدّدة اللّغات. أمّا إذا اعتمدنا مقياس المحتوى المعرفيّ للمعجم الإلكترونيّ، فيمكن أن نميّز بين معجم إلكترونيّ عامّ، يشتمل وحدات لغويّة عديدة، تنتمي إلى مجالات معرفيّة مختلفة، وبين معجم إلكترونيّ خاصّ، يشتمل على وحدات لغويّة تنتمي إلى مجال معرفيّ محدّد، من قبيل المعجم الإلكتروني لمصطلحات الحاسوب أو المعجم الإلكتروني لمصطلحات الطبّ أو المعجم الإلكترونيّ لمصطلحات القانون، وغير ذلك من المعاجم الخاصّة كثيرا.
أمّا إذا اعتمدنا المقياس التقنيّ، فإنّ المعاجم الإلكترونيّة تنقسم إلى فروع مختلفة، فمنها ما
يُعرف بالمعاجم الواردة في شكل أقراص مدمجة، ومنها ما يرد في شكل آلة حاسبة صغيرة تتضمّن سجلاّ معجميّا معيّنا. ومنها ما يرد على صفحات الويب، ويُسمّى معاجم الإنترنت التي تُصنّف إلى معاجم تقدّم قوائم من الكلمات في شكل مسارد، ويمكن تمرير فأرة الحاسب على إحدى الكلمات، فيظهر معناها في مربّع. ويمكن تحميل هذه المعاجم على قرصٍ صلب، واستخدامها في حاسب المكتب، من دون الحاجة إلى الاتّصال بالنت. والمعاجم المستخدمة على الإنترنت، منها ما يمكن الحصول على خدماته عن طريق الاشتراك بدفع معلوم ماليّ معيّن، ومنها معاجم مجانيّة مفتوحة لعموم المستخدمين، ومنها معاجم هي بمثابة مشاريع إلكترونيّة ذات صبغة تعاونيّة، ويشرف عليها مستخدمون من أهل الاختصاص في مجال معرفيّ معيّن.
وعلى الرغم من أهمّية المعالجة الحاسوبيّة للّغة العربيّة الآن وهنا، فإنّ جهود إحداث معاجم إلكترونيّة عربيّة ما زالت بطيئة ومحدودة، وما أُنجز في هذا الشّأن، على أهمّيته، ما زال في حاجة إلى مزيد التّعديل والتّطوير وإعادة البناء، فصناعة المعاجم الإلكترونية لم تزدهر بعد في السياق اللغوي العربي المعاصر، وأغلب المعاجم المحوسبة التي أنجزها العرب أحادية اللغة، أو هي لا تقبل التحميل أو التحيين، ولا تتوفّر على طاقة تخزينية واسعة، ولا تسمح للمستخدم بتقديم مقترحات أو إضافة مصطلحات جديدة.
لذلك، من المهمّ بمكان، اليوم، إحداث معاجم إلكترونيّة عربيّة متطوّرة، تستغرق جميع المصطلحات المتعلّقة بمجالات معرفيّة مختلفة أو محدّدة، وتضبط معانيها وتعريفاتها، ومقابلاتها وسياقاتها الدلاليّة والمفهوميّة. ومن الضروريّ أن تعتمد تلك المعاجم على الوسائط المتعدّدة في عرض الموادّ اللغويّة (الأصوات، الصّور، الفيديو، الخرائط...). وأن توفّر الواجهات البرمجيّة اللاّزمة للرّبط والتّنسيق، والانتقال من خانة إلى أخرى، وفق ما يستجيب لتطبيقات المعالجة الآليّة للّغة العربيّة. ويجب أن تكون تلك المعاجم قابلة للتّحيين والتّحميل، حتّى يسهل استخدامها وتطويرها وتعمّ الفائدة بها. ومن المهمّ أن تتّسم بالتفاعليّة، فيتعاطى معها المستخدم بالاقتراح والنّقد وإبداء الرّأي في المداخل المعجميّة المعروضة، وفي طريقة عرضها. ومن الضروريّ أن تتوفّر على تصميم ديناميّ، يسمح بتجديد محتواه، ويمكّن المستعمل من البحث عن المعلومات واسترجاعها وتبويبها، بتوفير خانات للتعريف بالمصطلح وترجمته وتصنيفه وضبط طرق البحث عنه بشكل سريع. ذلك أن تطوير المعجم الإلكتروني العربي، من جهة كيفيات إخراجه ومحامله الفنية والمضمونية، باب مهمّ من أبواب تطوير اللغة العربية، وتعزيز مكانتها في المشهد التواصلي الكوني.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.