وكانت زوجة محمد. ق (ابن كريم) حاملاً، عندما اعتقل زوجها من قبلِ حاجزٍ للأمن العسكري، قرب كفرسوسة بدمشق، في منتصف مايو/ أيار عام 2013، وفق ما يقول والده، لتنقطع، كبقية المعتقلين في سورية، أخباره تماماً منذ ذلك الحين. وقد بلغ الآن عمر ابنه خمس سنوات من دون أن يتعرف إلى والده.
وعلى الرغم من أنّ مصير محمد ما زال مجهولاً، إلا أنّ كلمات والده تشي بأنه شبه متيقّنٍ من مقتله في المعتقل، من خلال مجموعة رواياتٍ سمعها عن الفرع الذي اعتقل فيه محمد، وهو الفرع رقم 215 التابع للأمن العسكري والمعروف باسم "سريّة المُداهمة".
نيراز سعيد... مصورٌ مُعتقلٌ وفّاه النظام بالسجلات
وفي حين بقي مصير محمد مجهولاً، فإنّ أهالي مُعتقلين آخرين تيقّنوا من مقتل أبنائهم في أفرع أمنية مختلفة، بعد توجّههم خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى إدارة السجّل المدني في المحافظة التي ينحدرون منها، واستخراج بيانٍ عائلي، وجدوا فيه أن أبناءهم قد تمّ تسجيلهم على أنهم "مُتوفون". حصل ذلك مع كثيرٍ من العائلات في مختلف المحافظات السورية، ومن بينها عائلة المصور الفلسطيني نيراز سعيد، الذي نعته الأسبوع الماضي زوجته لميس الخطيب على حسابها في موقع "فيسبوك" بقولها: "قتلوا حبيبي وزوجي، قتلوا نيراز، قتلوك يا روحي. نيراز استشهد بمعتقلات النظام السوري".
يؤكد الحقوقي الفلسطيني – السوري، أيمن أبو هاشم، في حديث مع "العربي الجديد"، الأربعاء الماضي، أنّ من تبقّى من أسرة نيراز سعيد في دمشق علموا من خلال أقاربهم بوصول اسم نيراز مع قوائم القتلى في معتقلات النظام السوري إلى دائرة الأحوال المدنية التابعة لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين في منطقة عين الكرش بدمشق، ليضاف إلى قائمةٍ موثّقة بأسماء 605 فلسطينيين قتلوا في سجون النظام بعدما كانوا قد اعتقلوا خلال السنوات الماضية، ومنهم 40 خلال الأسبوعين الأخيرين فقط. ويضيف أبو هاشم أنّ "التجمّع السوري – الفلسطيني" (مصير)، وثّق 12 ألف حالة اعتقال لفلسطينيين في سورية، خلال السنوات السبع الماضية.
ونيراز سعيد، مصورٌ وثّق معاناة المدنيين في مخيم اليرموك بدمشق، وحصلت أعماله على جوائز عالمية، أشهرها جائزة "أونروا" لأفضل صورة صحافية عن صورة "الملوك الثلاثة". كما أنتج فيلم "رسائل من اليرموك". وعُرضت بعض أعماله في معرضين بمدينتي القدس ورام الله، قبل أن تعتقله دورية من استخبارات النظام، في دمشق، مطلع أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2015.
هل يُغلق النظام ملف المُعتقلين؟
قبل أيام قالت مصادر إعلامية في مدينة السويداء، جنوب سورية، إنّ والد المعتقل السياسي إيهاب طلال أبو صعب، من أبناء ريف المحافظة، علم قبل فترة وجيزة، عن طريق الصدفة، أنّ ولده المعتقل منذ مارس/ آذار 2013 قد قتل في مُعتقله، بعد عام واحد على اعتقاله من قبل الأمن العسكري، وذلك استناداً إلى بيان قيد عائلي استخرجه من السجّل المدني. وحصل الأمر نفسه مع عشرات العائلات بدمشق وحماة والحسكة ومحافظات سورية أخرى.
فمنذ مايو/ أيار 2018، تزايدت بحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" وتقارير أخرى، حالاتُ كشف عائلات المعتقلين تثبيت وفاة أبنائهم من دون علمهم في السجلات المدنية.
وبدأ النظام يلجأ في الآونة الأخيرة، بحسب حقوقيين سوريين، إلى حذف أيّ دلائل تخصّ المعتقلين، ومن الممكن أن تؤدي مستقبلاً إلى ملاحقته قانونياً، فـ"يتلاعب بالسجلات المدنية، وتتم توفية الشخص من دون الإشارة إلى أنّه كان محتجزاً"، بحسب ما تذكر مسؤولة قسم المعتقلين في "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" نور الخطيب. وتوضح في حديث مع "العربي الجديد" أنّ سعي النظام لـ"إغلاق ملف المُعتقلين صعبٌ أن يحدث، بسبب وجود نحو 215 ألف معتقل ومختفٍ قسرياً بمراكز احتجاز النظام".
وتقول الخطيب إنّ "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" وثّقت في سجلاتها مقتل 13066 معتقلاً تحت التعذيب في سجون النظام، مضيفةً أنّ هذا التوثيق يشمل الاسم الثلاثي للضحية، وتاريخ وملابسات اعتقاله، والجهة التي كان محتجزاً لديها. وتلفت إلى أنّ النظام يقوم بتوزيع قوائم بأسماء أشخاصٍ قتلوا في المعتقلات على دوائر السجلات المدنية، بمعنى أن تقوم سلطات النظام بتوفية الشخص، مُبيّنةً أنّ "شهادة الوفاة الصادرة عن النظام في هذه الحالة تُحدد زمان الوفاة ومكانها، بحيث يُكتب في خانة المكان فقط المحافظة التي حصلت فيها الوفاة، من دون أن يُذكر مكان الوفاةِ أو سببها تحديداً".
وتوضح الحقوقية السورية أنه عندما تُقدم "عائلة من عائلات المعتقلين بعد علمها بوفاة ابنها على محاولة اتخاذ أي إجراء قانوني لتحديد سبب أو مكان وفاة ابنها، أو حتى المطالبة بجثمانه، فإنها تُعرّض نفسها لملاحقات وتهديدات، كون الموضوع برمته مرتبطاً بأفرع الاستخبارات، التي تُغلق بشتى الوسائل الطرق القانونية كافة على أهالي الضحايا" من المعتقلين والمُعتقلات بسجون النظام.
ووفقاً لـ"الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فإنه بالإضافة إلى عشرات آلاف المعتقلين فإن النظام يحتجز في معتقلاته أكثر من ثمانية آلاف امرأة، بينهنّ من قُتلن تحت التعذيب، وفق ما كشفت صور "القيصر". و"القيصر"، هو الاسم المستعار لمصوّر في الشرطة العسكرية التابعة للنظام، يبلغ عمره نحو خمسين عاماً، وسرّب قبل أكثر من خمس سنوات، أكثر من ثلاثة وخمسين ألف صورة، تُثبت وفاة نحو أحد عشر ألف شخص، قتلوا في معتقلات النظام السوري. وقد أكد هذه الأرقام، في الأسبوع الماضي، لصحيفة "بيلد" الألمانية، التي أجرت لقاءً معه في دولةٍ أوروبية.
وقبل بدء النظام في الأسابيع الماضية بتوفية معتقلي سجونه في سجلاتهم المدنية من دون علم أهلهم، لم يكن أمام هؤلاء طرق كثيرة يسلكونها، للاستقصاء عن مصير أبنائهم.
ووفقاً لمسؤولة قسم المعتقلين في "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" فإنه "لا إجراءات قانونية في سورية يُمكن لأهالي المُعتقلين اتباعها للاستقصاء عن حالة أبنائهم وأقاربهم. لا يستطيع الأهل توكيل محامٍ مثلاً بسبب السياسة الأمنية التي يتبعها النظام السوري اتجاههم". وتشير إلى أنّه "في بعض الحالات، يذهب الأهالي لمقرّات الشرطة العسكرية ويسألون عن المعتقل مرات عدة، ليحصلوا على جوابٍ، إمّا بمكان المعتقل إن كان مثلاً في سجن صيدنايا، أو إعطاء الأهل شهادة وفاة، تتضمّن سبباً مزعوماً للوفاة ومكانها (توقّف قلب مفاجئ وما شابه)"، وهذا ما اعتبرته الحقوقية السورية بمثابة "اعترافٍ من الشرطة العسكرية بأنّ الشخص قد توفى في أحد مراكز الاحتجاز"، لكنها أشارت إلى أنّ هذه الحالات محدودة، قياساً بأعداد القتلى في هذه المراكز.
مصير مجهول لعشرات آلاف المُعتقلين
وإشكالية مسألة استخراج شهادات وفاةٍ للمعتقلين الذين لم يوفّيهم النظام في سجلاته، وتيقّن أهلهم بصورة أو بأخرى من مقتلهم هي قضيةٌ مُعقدة وتشكّل معاناةً إضافيةً لأهالي الضحية، الذين سيضطرون بعد سنوات لتوفية أبنائهم قانونياً لأسباب مختلفة، منها إذا كان المعتقل متزوجاً، بالإضافة إلى مسألة الميراث.
اعتقلَ لؤي. ق (تاجر، عمره 38 عاماً)، زَوج سوسن. ح، سنة 2012، من مكان عملهِ في دمشق من قبل الاستخبارات الجوية، للاشتباه بكونهِ ناشطاً في الثورة السورية. وبعد اعتقال لؤي ولمدةٍ تجاوزت 15 شهراً، زارَ عددٌ من السماسرة وضباط في الأمن والده، الذي يسكن في حي المالكي، أكثر أحياء العاصمة ثراءً، عارضين عليه إخراج ابنهِ من المعتقل، في حال دفع لهم مبالغَ مالية كبيرة تصل إلى عشرات آلاف الدولارات.
كان أبو لؤي يطلب منهم أن يثبتوا فقط مكان ابنه ليتمكّن من زيارته، حتى يدفعَ ما يطلبونه من مال، وذلك قبل ظهور صور "القيصر"، التي اتضح فيها مقتل لؤي غداة اعتقاله مباشرةً، إذ إن ملامح وجهه وجسده في الصورة كانت ما تزال تُظهر صحته الجيّدة، من دون ظهور أي علامات تدهور على صحته أو بمعالم وجهه الممتلئ. وهو ما يعني أن لؤي كان مقتولاً أثناء مفاوضة بعض ضباط الأمن وسماسرتهم لوالده، بحسب ما ذكرت سوسن، زوجة لؤي، لـ"العربي الجديد".
وتقول سوسن: "عشت على أمل عودته كل يوم إلى حين رأيت صورته مقتولاً بعد نشر صور القيصر على الإنترنت. قُطِعَ الشك باليقين، وانتهى الأمر. قتلوه فور اعتقاله، أو على الأكثر بعد أقل من 4 أسابيع". وتروي الشابة العشرينية، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ شاباً تقدّم للزواج منها سنة 2017، فتقدّمت بدعوى إلى القاضي الشرعي في دمشق، تطالب بتوفية زوجها، مشيرةً إلى أنّ "المحامي نصحنا بألا نذكر للقاضي أي شيء عن اعتقال زوجي أو رؤيتنا لصورته، فالنظام لا يعترف بصور القيصر، ويقول إنها مزوّرة، كما أن القاضي إذا علم أنّ زوجي كان معتقلاً، سيُحيل الأمر للقضاء العسكري، ولوزارة الداخلية للتيقّن من مصيره".
تروي سوسن أنّ "المحامي قدّم الدعوى على أساس أنّ زوجي مفقودٌ منذ ما يزيد عن أربع سنوات، حيث استدعى القاضي شهود عيان، لحلف اليمين، بأنّه لم يحدث أيّ تواصلٍ مع زوجي منذ ذلك الحين. تأخّرت القضية لأشهر، قبل أن يبتّ القاضي بالأمر ويقرّر توفية زوجي".
لكنّ آلافاً من أهالي المعتقلين، الذين ثبت لديهم بطريقة ما مقتل أبنائهم المعتقلين، عليهم أن يتبعوا طرقاً أكثر صعوبة ليتمكّنوا من الحصول على شهاداتِ وفاة، وليس أكيداً أنهم سيتمكنون من تحصيلها.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث السوري محمد منير الفقير، وهو مُنسّق "رابطة معتقلي صيدنايا"، حيث كان مُعتقلاً في السابق، إنّ أسر المعتقلين الذين ثبت مقتلهم في معتقلات النظام، يتبعون طرقاً عدة لاستخراج شهادات وفاة لأبنائهم، علاوة على طريقة توفية المعتقل عن طريق حكم محكمة. ويوضح الفقير، في حديث مع "العربي الجديد"، أن إحدى الطرق "أن يتقدّم الأهل بطلبٍ للقضاء العسكري في المزة لكشف مصير المعتقل، فيتم في بعض الحالات إعطاؤهم ورقة لمراجعة الشرطة العسكرية في القابون، وهناك يتم البحث في سجّلات إدارة السجون العسكرية، التي قد تُخبر الأهل بمصير المعتقل. فإما أن يُقال لهم إنه ليس له اسم في السجلات، أو يتم إخبارهم بأنّ اسمهُ موجود من دون تحديد مكان اعتقاله أو حالته إن كان حياً أم لا، أو يتم إعطاؤهم ورقة بوفاته مختومة من الطبيب الشرعي، إذ يتوجهون بها في هذه الحالة إلى مستشفى تشرين العسكري، التي تمنحهم شهادةً بوفاته، وتُعلل الوفاة غالباً بتوقّفٍ مفاجئ للقلب أو التنفّس وما شابه".
ويضيف الباحث السوري أن الجواب في الشرطة العسكرية في القابون "يكون أحياناً بأنّ الشخص الذي يسألُ أهله عنه، قد جاء لسجون الشرطة العسكرية وتم تحويله إلى الاستخبارات الجوية"، مبيّناً أنه "في هذه الحالة يكون الشخص قد أعدمَ بالغالب في المحاكم الميدانية، ولكن لا يُمنح أهله أي ورقةٍ بذلك".
ويشير الفقير إلى أنّ "بعض أهالي المعتقلين عند عدم وصولهم إلى معلومةٍ حول مصير ابنهم في الشرطة العسكرية، يتوجّهون إلى مكتب الأمن الوطني في دمشق، الذي لديه سجلاتٌ بكامل قوائم المعتقلين وحالتهم إن كانوا أحياء أم لا، ومكان اعتقالهم أو دفنهم، ولكن ليس مؤكداً أن يُمنح الأهل إجابات عن مصير أبنائهم بكل الأحوال"، فالأمر يتوقّف على عوامل عدة، منها حالة المُعتقل، والجريمة المُتهم بها، ومدى تمكّن أهله من الوصول إلى شخصية نافذةٍ في النظام لتساعدهم بالأمر وغير ذلك.
ويبقى، بحسب حقوقيين سوريين، عشرات آلاف المعتقلين في السجون التابعة للنظام، مجهولي المصير، مع عدم توفية النظام لهم، ومع استحالة وصول أهاليهم إلى أي معلومةٍ حول مصير أبنائهم.