أتذكّر أننا كنّا نزدري كل أولئك الكتّاب الذين يتهمهم أساتذتنا بأنهم كتّاب البرج العاجي. حيث كانت تلك التسمية ترتبط باللامبالاة والجبن والعجرفة. ولا يشمل الازدراء الكتّاب والشعراء الذين تم اختيارهم لهذه الغاية وحسب، بل كل من يمكن أن يكون قد انسحب من "الكفاح" الجماهيري الذي كان يشكّل الرافعة الأولى للوجود الشخصي لكل مواطن بيننا. وقد نجمت عن هذا موجةٌ من العقاب الجماعي تتمثل في الامتناع عن قراءة أعمال الكاتب المعني، واحتقارها العلني إذا أمكن.
وقد تبيّن في ما بعد أن التهمة كانت مفتعلة ومدبّرة من قبل أولئك الذين يريدون استخدام التشهير وسيلة للتخويف، وطريقة لإرغام الكتّاب على الانضواء وراء أفكار السلطة الحاكمة والقوى المهيمنة على الثقافة من أحزاب وقبائل وتيارات فكرية. وقد ساهم التاريخ في تفعيل الكلام عن البرج العاجي. ففي تلك المرحلة، كانت معظم البلاد العربية تشهد صعوداً في أفكار التحرّر والرغبة في الحياة الأفضل والدعوة إلى الاشتراكية وغيرها من الدعوات التي تثير الخيال الجمعي للشعوب التي عانت طويلاً من القهر. وكانت أفكار الالتزام الماركسية والوجودية تملأ الساحة الثقافية.
وكان هذا يضع الكاتب العربي بين خيارين خطرين: الأول هو مسافة التدخل التي يُسمح له بالولوج إليها من قبل السلطات المختلفة، وهي قوى لا تعرف الهوادة في مسائل حرية الرأي. والثاني هو التهديد المتواصل له بالإقصاء من جنّات القراءة بتهمة الانعزال واللهو والقعود في البرج العاجي. وفي ظني أن هذا المصطلح قد أُعدّ ليكون ستارة للهجوم على حرية الفكر من قبل العقائد المهيمنة، والقوى التي تريد تكبيل الكتّاب. وبسبب هذا كان الكتّاب يخشون تهمة البرج التي قد تكون بمثابة الإعدام الأدبي والمعنوي لوجودهم.
وفي مواجهة تلك العبارة التي لخّصت في كلمة "المعتزل" نهضت كلمة أخرى هي "المنتمي". وعلى الرغم من أن ظلالاً من الرغبة في الرد على كتاب كولن ولسون "اللامنتمي" قد تكون متضمّنة في الكلمة، فإن الرسالة كانت توجّه للكاتب من قبل موظفين يزعمون أنهم كتّاب كي ترغمه على الانضواء في ركب الجماعة.
ولكن سواء كنا نتحدّث عن ابن المقفع أو الجاحظ أو طه حسين أو العقاد أو عبد الرحمن منيف أو غالب هلسا، فإن الكاتب العربي كان مشتبكاً في مشاكل الواقع بصرف النظر عن نوع المشكلة، فإذا لم يتحدّث طه حسين عن الخبز مثلاً، فقد انبرى لسياسات التعليم والثقافة، وحاول توفيق الحكيم الاقتراب من قضية العدالة، وفيما اهتم نجيب محفوظ بالوجود والثورة، ظل عبد الرحمن منيف وغالب هلسا مشغولين بقضية الحرية.
أفكّر أن الكاتب العربي عموماً لم يتخاذل في أي يوم، وإذا ما وجد كاتب ابتعد عن المواجهة المباشرة فإن الخوف كان السبب. وقد شرح كتّاب عرب في ما بعد طبيعة الخوف في ظل أنظمة مرعبة، ولعل الخوف نفسه هو الذي جعل بعضاً منهم ينشرون شهاداتهم بأسماء مستعارة حتى بعد مغادرتهم الأوطان إلى المنافي.