ربما ستواجه دول الاتحاد الأوروبي أزمة مصرفية خلال السنوات المقبلة في حال تأخر فتح الاقتصادات أو تباطؤ الانتعاش الاقتصادي بسبب تزايد الإصابات بفيروس كورونا الجديدة بعدد من دول أوروبا.
وحتى الآن تراهن الحكومات والشركات والأعمال التجارية التي استدانت بكثافة من المصارف خلال الشهور الماضية على عودة سريعة للاقتصادات للانتعاش خلال النصف الثاني من العام الجاري.
لكن رهان الحكومات والمصارف التجارية ربما سيصطدم باحتمال تزايد تفشي جائحة كورونا التي تعوق حتى الآن عودة النشاط التجاري والصناعي إلى طبيعته في العديد من أنحاء القارة الأوروبية. وتبدو المصارف التجارية التي تحملت العبء الأكبر في إقراض الشركات والأفراد في أوروبا ومساعدتها على تسيير أعمالها خلال فترة الإغلاق وانعدام الدخل وارتفاع البطالة، الأكثر عرضة لأزمة مالية خلال الفترة المقبلة.
ورغم أن المصارف في أوروبا، من حيث مراكزها المالية وأصولها، أفضل حالاً مقارنة بما كانت عليه إبان أزمة المال العالمية في العام 2008، ولكن لا يعني ذلك أنها باتت مستعدة أو قادرة على تحمل مخاطر مئات المليارات من القروض المشكوك في تحصيلها أو المعدومة في حال استمرار ارتفاع حالات تفشي الجائحة بدول أوروبا، وتبعاً لذلك تعطيلها عن تشغيل المصانع والتجارة، وبالتالي ضرب دورة انتعاش القوة الشرائية.
وتشير بيانات يورو ستات إلى أن نحو 40 مليون شخص في أوروبا كانوا يتلقون حتى نهاية شهر يونيو/ حزيران إعانات حكومية بسبب خسارة وظائفهم جزئياً، وأن حوالى 20% من هؤلاء سيتحولون إلى بند البطالة الكاملة بنهاية العام الجاري حتى بعد فتح الاقتصادات وعودة تشغيل الأعمال التجارية والمصانع.
وتتوقع المفوضية الأوروبية أن ترتفع نسبة البطالة من 6.7% إلى 9.0% بنهاية العام الجاري. ولاحظ خبراء ماليون أن المصارف التجارية الأوروبية تمكنت من خفض حجم القروض غير العاملة خلال السنوات التي تلت أزمة اليورو في العام 2011 إلى 3.3% من إجمالي حجم أصولها المالية، إلا أن حجم القروض أو الديون التي لا تدر دخلاً عليها لا يزال مرتفعاً.
وتقدر بيانات "يورو ستات" أن حجم القروض التي منحتها المصارف التجارية للشركات والأعمال التجارية والأفراد ارتفعت خلال الشهور الماضية، وربما ستصل إلى نحو 6.0% من إجمالي حجم أصولها المالية، أو ما يعادل 1.2 ترليون يورو بنهاية العام.
وحتى الآن يعمل البنك المركزي الأوروبي على مساعدة المصارف التجارية الأوروبية على تجاوز محنة ديونها المتراكمة على الشركات والحكومات عبر مدها بالسيولة وبنسبة فائدة سالبة، كما يمنحها كذلك فرصة شراء السندات الحكومية عبر التمويلات قصيرة الأجل.
وحسب بيانات المركزي الأوروبي، فقد اقترضت المصارف التجارية في أوروبا نحو 1.31 ترليون يورو خلال العام الجاري حتى تتمكن من الاستمرار في إنقاذ الشركات والأعمال التجارية التي تواجه أزمة الدخل. كما أن المركزي الأوروبي قام بعمليات اقتراض الدولارات من مصرف الاحتياط الفيدرالي عبر برنامج "الصفقات التبادلية بين اليورو والدولار" حتى يمكنها من خدمة زبائنها الذين اقترضوا بالدولار. ولكن الاقتصادي الإسباني الأستاذ بجامعة مدريد الإسبانية، لاكال دانيال، يرى أن هذه حلول مؤقتة وأن المركزي الأوروبي لا يمكنه إخفاء أزمة الديون المعدومة لدى البنوك التجارية إلى ما لا نهاية.
وفي هذا الشأن، يرى محللون أن المصارف التجارية في أوروبا تواجه ثلاث مشاكل رئيسية ربما ستحول دون تعافيها، أو ربما ستودي بها إلى انتكاسة جديدة شبيهة بالانتكاسة التي عاشتها في بداية العقد الجاري مع أزمة ديون منطقة اليورو التي لم تتمكن دول المجموعة من حلها إلا بمساعدة صندوق النقد الدولي.
وكادت تلك الأزمة أن تفلس العديد من دول منطقة اليورو، بعد أن أفلست اليونان. وهذه المشاكل أو العقبات الثلاث هي: ارتفاع القروض غير العاملة، وتقلص النشاط التجاري بسبب احتمال طول فترة تفشي جائحة كورونا، ومعدل الفائدة السالبة التي يتبعها المركزي الأوروبي على اليورو التي تحطم ربحيتها من العمليات المصرفية.
المصارف التجارية في أوروبا تواجه ثلاث مشاكل رئيسية ربما ستحول دون تعافيها، أو ربما ستودي بها إلى انتكاسة جديدة شبيهة بالانتكاسة التي عاشتها في بداية العقد الجاري مع أزمة ديون منطقة اليورو
ويرى خبراء ماليون أن هذه العوامل السالبة إذا تكاتفت جميعها معاً ربما تخلق أزمة مصرفية في أوروبا بسبب القروض الضخمة التي منحتها للشركات والأعمال التجارية في أوروبا خلال العقد الجاري.
وإضافة إلى ذلك يرى الاقتصادي الإسباني دانيال لاكال، أستاذ الاقتصاد بجامعة مدريد، أن المصارف الأوروبية ستواجه خلال العامين المقبلين كذلك أزمة السندات السيادية التي أصدرتها الحكومات لتمويل العجز خلال سنوات عديدة من تراجع النمو الاقتصادي، والتي يقدرها بأكثر من ترليون يورو. ويشير الخبير الاقتصادي دانيال في تغريدات على موقعه بتويتر، إلى أن البنك المركزي لا يمكنه إخفاء أزمة ديون اليورو إلى ما لا نهاية عبر عمليات التمويل التي يمنحها من خلال برامج إعادة الشراء الميسر للسندات الحكومية بمنطقة اليورو.
وتشير إحصائيات المفوضية الأوروبية إلى حدوث انكماش بنسبة 7.4% في اقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي الـ27 دولة خلال العام الجاري. وتتوقع المفوضية أن يصل انكماش الاقتصادات في كل من إسبانيا واليونان وإيطاليا إلى نسبة 9.0%، كما تقدر أن يبلغ نسبة 8.2% في فرنسا التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي.
ويقول الاقتصادي دانيال إن مشكلة منطقة اليورو هي أن الحكومات تخلت عن الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد وراهنت في الانتعاش على السياسة النقدية، وهو ما أدى إلى تراكم الديون والقروض غير العاملة. كما يرى أن حكومات منطقة اليورو ارتكبت ثلاثة أخطاء قاتلة في استجابتها لجائحة كورونا، وهي تأميم بعض الصناعات وفتح الباب أمام البيروقراطية والكساد، والاعتماد البحت على السياسة النقدية التي ربما ستنقذ القطاع المصرفي والحكومات لبعض الوقت وتأخير أزماتها ولكنها ليست الحل، كما فرضت شروطاً قاسية على الاستثمار الأجنبي، وبالتالي تباطأت التدفقات المالية على أسواق المال والشركات الأوروبية.
المصارف الأوروبية ستواجه خلال العامين المقبلين كذلك أزمة السندات السيادية التي أصدرتها الحكومات لتمويل العجز خلال سنوات عديدة من تراجع النمو الاقتصادي، والتي يقدرها بأكثر من ترليون يورو
ويرى خبراء اقتصاد أن هذه السياسات البيروقراطية في أوروبا ستنعكس سلباً على النمو الاقتصادي بأوروبا، وربما ستدفع المصارف التجارية ثمنها خلال السنوات المقبلة، حينما تعجز الشركات والحكومات عن خدمة السندات المصدرة وحينما ترتفع نسبة البطالة ويعجز الأفراد والعائلات عن تسديد خدمة قروض المنازل وبطاقات الائتمان وتبدأ مرحلة من الإجراءات القانونية للإفلاسات.
وعمدت المصارف الأوروبية إلى خفض كلف التشغيل والتخلص من القطاعات المصرفية غير المربحة والاستثمار في التقنية وتقليص الفروع المصرفية واستبدالها بالخدمات الهاتفية ضمن إطار خطط النجاة من تداعيات الكساد الذي ضرب أوروبا خلال العقد الماضي وأخر انتعاش اقتصاداتها من أزمة المال العالمية مقارنة بالولايات المتحدة واليابان. وخسرت أوروبا العديد من قطاعاتها الصناعية خلال أزمة المال وارتفع حجم الإفلاسات في منطقة اليورو.
ولكن على الرغم من هذه النظرة المتشائمة للاقتصادات والمصارف، فإنه يبدو أن هنالك ضوءا في نفق النمو المظلم، إذ أظهر مسح، أمس الأربعاء، أن تراجع نشاط التصنيع في منطقة اليورو لم يكن سيئاً مثلما كان يُعتقد خلال الشهر الماضي، وذلك بعد تخفيف مزيد من الاقتصادات في التكتل قيوداً فرضتها للحد من انتشار فيروس كورونا. وحسب وكالة رويترز، سجل المؤشر 47.5 الشهر الماضي، من 31.9 في مايو/ أيار، وهو ما يزيد بفارق جيد عن قراءة أولية سابقة بلغت 46.9. وقفز مؤشر يقيس الإنتاج إلى 48.9 من 35.6.