25 فبراير 2022
المشهد اليوم ... هشاشة إسرائيل
ما يمكن قوله، اليوم، عن إسرائيل، بعد ستة وستين عاماً على تأسيسها، هو نفسه الذي كان يمكن قوله في لحظة نشوئها: عدوانٌ مباشرٌ على فلسطين، ومشروعُ تبديدٍ شاملٍ لشعب فلسطين. وهي كدولة، تمارس، في التاريخ، خطةَ تهديدٍ دائم للأمة العربية، ومشروعَ تفكيكها وتأبيد تبعيتها. إنها تشكل بهذا استثماراً مريحاً للإمبريالية الغربية، الأميركية منها خصوصاً.
لكن، دولة إسرائيل هي دولة مشكلاتٍ لا نهاية لها. إنجازاتها الكثيرة تُعمّق تبعيتها للغرب، وتُعمّق هشاشتها بالضرورة. نشأت "فكرة" إسرائيل في أنها ستكون حمايةً ليهود العالم وملجأ لهم. وفي أنها ستكون نهاية للدياسبورا والفصل الختامي في تاريخ الشتات، غير أن العلاقة بين إسرائيل والدياسبورا تميل لصالح هذه الأخيرة باضطّراد. هكذا، غدت مهمة ما يعرف باسم "اللوبي اليهودي" في أميركا حمايةَ إسرائيل من المشكلات التي تخلقها، ومن الأخطار التي تحيط بها. يتحول (اللوبي) شيئاً فشيئاً إلى شريك في القرار، بل إلى صاحب القرار في بعض الحالات. هكذا، صار مألوفاً، مثلاً، أن يقول أصدقاؤها إنه يتوجب إنقاذ إسرائيل من حماقاتها، ومن نزوعها الانتحاري. وفي سياق سيرورة هذه التبعية التاريخية التي تتعمّق، اختفت من القاموس الإسرائيلي والصهيوني حكاية الاستقلال الاقتصادي الذي بُنيت الفكرةُ عليه. إن إسرائيل هي البلد الذي يعتاش على المعونات الخارجية، والدعم الاقتصادي والعسكري. ولهذا تبعات سياسية، لا ريب فيها. ألم تصمت إسرائيل عن حكاية الخطر النووي الإيراني، بناء على طلب (اللوبي)؟
****
دولة إسرائيل هي كذلك موطن التصدع الكبير الذي يتفاقم بين العلمانيين والمتشددين الدينيين، لصالح هؤلاء الأخيرين. فقد وضع الرواد الأوائل الدين اليهودي في خدمة المشروع، أي وظفوه براغماتياً لصالح الإيديولوجيا ومقتضيات المشروع. في حين أن المشروع هو الذي أصبح يوظف اليوم براغماتياً في خدمة الدين ولغايات مؤسساته. هكذا، تلاشى الكيبوتس من القاموس، من حيث هو رمز للحلم الصهيوني بتاريخٍ جديدٍ، سيقفُ على قدميه، وبمجتمعٍ يُصَحَحُ هرمُه الذي كان، قبل الصهيونية، مقلوباً. لقد اختفت تلك الأحاديث الذربة التي كانت عن الحلم الاشتراكي، وعن العلاقة الجديدة بالأرض وبالإنسان. واختفت معه تلك الجاذبية التي استقدمت آلاف الشبان، الحالمين ببشريةٍ جديدةٍ قائمةٍ على المساواة في العمل والملكية المشتركة.
****
ليس الهدف مما سبق قوله سبر إسرائيل من زاوية "الحلم" الصهيوني. فهذا لا مُسوِّغَ له، لا من منظار الفلسطينيين، ولا من منظار العرب. وقد يفضي إلى استنتاجاتٍ لا محل لها، إن لم تكن خاطئة. فإسرائيل، كما قلت، وظيفة قبل أن تكون دولة: إنها دولة الوظيفة. الوظيفة شرط الدولة وقاعدة شرعيتها. وتبديد الفلسطينيين وتمزيق العرب، كل العرب، مع ترسيخ ضعفهم، ومنع وحدتهم، هو، حتى اليوم، الشرط الوجودي لدولة إسرائيل. إنها دولة المشكلات التي تخلقها وظيفتها لنفسها، ولضحاياها من الفلسطينيين، ولمحيطها العربي والإقليمي. إسرائيل، بهذا المعنى، مشروع إمبريالي مجد. فعائداته على "الإمبراطورية"، حتى اليوم، لا نظير لها في بقاع الأرض الأخرى. وسياسيو إسرائيل، وكتابها، لا يكفون عن تذكير من يريد، ومن لا يريد، أن دولة إسرائيل هي الحصن الأمامي لحضارة الغرب في مواجهة "البربرية".
****
لكن مأزق إسرائيل، والذي لن تخرج منه من غير قروح قاتلة، يتمثل في الحرب الديمغرافية التي تخوضها من غير توقف، وأخذت، في الآونة الأخيرة، طابعاً هو إلى الهستيريا أقرب. ويتجلى فشلها النهائي في هذه الحرب، في عجزها الأكيد، عن أن تُطابقَ بين الشعار والواقع، بخصوص أن فلسطين أرض من غير شعب. هي لا تستطيع ابتلاع الفلسطينيين تحت خطر التحول إلى دولةٍ "يهودية"، اليهودُ فيها أقلية، فتغرق نفسها بالفلسطينيين العرب، وتتحول إلى دولةٍ تُجافي وقائعها فكرتها عن نفسها. هكذا تُوغِلُ في الأبارتايد الذي ما عاد يمكن إخفاؤه على الإطلاق. وليس من غير دلالةٍ، في هذا الخصوص، أن المؤرخ بني موريس الذي وثَّق طرد الفلسطينيين، ونكبتهم، لا ينتقد بن غوريون، لكونه خطّط لطرد غالبية الفلسطينيين، بل لأنه عجز عن طردهم كلهم.
يعرف الإسرائيليون أن دولتهم هشّة، وليس سبب هشاشتها أن العرب الذين يحيطون بها يهددونها. بل بالعكس. هي التي تهددهم، منذ اللحظة الأولى التي أدخلت الإمبريالية البريطانية فيها تصورها في منتصف القرن التاسع عشر لدولة/ مستوطنة، على طريق الهند. وليس السبب في هشاشة إسرائيل أن الفلسطينيين أشرار، بل لأن مشروعها شرير. وإلا فمن أين يأتي كل هذا الشر الذي يتحدث عنه المعلقون الإسرائيليون، بخصوص طبقتهم السياسية، ووجدانهم الجمعي الذي يرى في دمار الفلسطينيين والعرب خيراً عميماً لهم؟
****
يكابد العرب، اليوم، أزمة الخروج من التسلطية وسيروراتها التاريخية المعقدة، والطويلة على وجه الخصوص. وإذ يتسارع التفكك الذي يرافق الخروج من التسلطية وتتفاقم المشكلات، يبدو الإسرائيليون، وأنصارهم، في الولايات المتحدة الأميركية، على عجلة من أمرهم. إنهم يريدون استثمار الظروف الحالية واستغلالها، من أجل فرض "حل" على الفلسطينيين، يقولون هم أنفسهم عنه، إنه ينهي المطالب الفلسطينية نهائياً. يشرح هذا الحاحهم الهستيري، اليوم، على ضرورة أن يعترف الفلسطينيون، بالذات، بأن إسرائيل هي الدولة القومية "للشعب اليهودي"، أي بيهودية إسرائيل، وأن تقوم منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني بهذا الاعتراف.
لا تزال إسرائيل في وعي الفلسطينيين، وفي عمق الوجدان الشعبي العربي، دولةَ الصهيونية التي أنتجت النكبة بقوة السيف؛ وسيبقى 1948 عامَ النكبة في المقام الأول، وما يتصل بذلك من رموز ومعانٍ. إنها، في وعينا، الأمر الواقع الذي وفّر له ضعفُنا والوضعُ الدوليُّ وتلاعبات القوى الكبرى أن ينجز ما أنجز. لكن هذه الإنجازات لم تتمكن من زحزحة الدولة الصهيونية، في وعينا، من موقعها، كعدوان على شرقي المتوسط الذي ننتمي إليه.
أما نظام الأبارتايد الذي تُشيّده فهو موطنُ عطبها وجرثومتُه؛ ومصيره التفكيك.
لكن، دولة إسرائيل هي دولة مشكلاتٍ لا نهاية لها. إنجازاتها الكثيرة تُعمّق تبعيتها للغرب، وتُعمّق هشاشتها بالضرورة. نشأت "فكرة" إسرائيل في أنها ستكون حمايةً ليهود العالم وملجأ لهم. وفي أنها ستكون نهاية للدياسبورا والفصل الختامي في تاريخ الشتات، غير أن العلاقة بين إسرائيل والدياسبورا تميل لصالح هذه الأخيرة باضطّراد. هكذا، غدت مهمة ما يعرف باسم "اللوبي اليهودي" في أميركا حمايةَ إسرائيل من المشكلات التي تخلقها، ومن الأخطار التي تحيط بها. يتحول (اللوبي) شيئاً فشيئاً إلى شريك في القرار، بل إلى صاحب القرار في بعض الحالات. هكذا، صار مألوفاً، مثلاً، أن يقول أصدقاؤها إنه يتوجب إنقاذ إسرائيل من حماقاتها، ومن نزوعها الانتحاري. وفي سياق سيرورة هذه التبعية التاريخية التي تتعمّق، اختفت من القاموس الإسرائيلي والصهيوني حكاية الاستقلال الاقتصادي الذي بُنيت الفكرةُ عليه. إن إسرائيل هي البلد الذي يعتاش على المعونات الخارجية، والدعم الاقتصادي والعسكري. ولهذا تبعات سياسية، لا ريب فيها. ألم تصمت إسرائيل عن حكاية الخطر النووي الإيراني، بناء على طلب (اللوبي)؟
****
دولة إسرائيل هي كذلك موطن التصدع الكبير الذي يتفاقم بين العلمانيين والمتشددين الدينيين، لصالح هؤلاء الأخيرين. فقد وضع الرواد الأوائل الدين اليهودي في خدمة المشروع، أي وظفوه براغماتياً لصالح الإيديولوجيا ومقتضيات المشروع. في حين أن المشروع هو الذي أصبح يوظف اليوم براغماتياً في خدمة الدين ولغايات مؤسساته. هكذا، تلاشى الكيبوتس من القاموس، من حيث هو رمز للحلم الصهيوني بتاريخٍ جديدٍ، سيقفُ على قدميه، وبمجتمعٍ يُصَحَحُ هرمُه الذي كان، قبل الصهيونية، مقلوباً. لقد اختفت تلك الأحاديث الذربة التي كانت عن الحلم الاشتراكي، وعن العلاقة الجديدة بالأرض وبالإنسان. واختفت معه تلك الجاذبية التي استقدمت آلاف الشبان، الحالمين ببشريةٍ جديدةٍ قائمةٍ على المساواة في العمل والملكية المشتركة.
****
ليس الهدف مما سبق قوله سبر إسرائيل من زاوية "الحلم" الصهيوني. فهذا لا مُسوِّغَ له، لا من منظار الفلسطينيين، ولا من منظار العرب. وقد يفضي إلى استنتاجاتٍ لا محل لها، إن لم تكن خاطئة. فإسرائيل، كما قلت، وظيفة قبل أن تكون دولة: إنها دولة الوظيفة. الوظيفة شرط الدولة وقاعدة شرعيتها. وتبديد الفلسطينيين وتمزيق العرب، كل العرب، مع ترسيخ ضعفهم، ومنع وحدتهم، هو، حتى اليوم، الشرط الوجودي لدولة إسرائيل. إنها دولة المشكلات التي تخلقها وظيفتها لنفسها، ولضحاياها من الفلسطينيين، ولمحيطها العربي والإقليمي. إسرائيل، بهذا المعنى، مشروع إمبريالي مجد. فعائداته على "الإمبراطورية"، حتى اليوم، لا نظير لها في بقاع الأرض الأخرى. وسياسيو إسرائيل، وكتابها، لا يكفون عن تذكير من يريد، ومن لا يريد، أن دولة إسرائيل هي الحصن الأمامي لحضارة الغرب في مواجهة "البربرية".
****
لكن مأزق إسرائيل، والذي لن تخرج منه من غير قروح قاتلة، يتمثل في الحرب الديمغرافية التي تخوضها من غير توقف، وأخذت، في الآونة الأخيرة، طابعاً هو إلى الهستيريا أقرب. ويتجلى فشلها النهائي في هذه الحرب، في عجزها الأكيد، عن أن تُطابقَ بين الشعار والواقع، بخصوص أن فلسطين أرض من غير شعب. هي لا تستطيع ابتلاع الفلسطينيين تحت خطر التحول إلى دولةٍ "يهودية"، اليهودُ فيها أقلية، فتغرق نفسها بالفلسطينيين العرب، وتتحول إلى دولةٍ تُجافي وقائعها فكرتها عن نفسها. هكذا تُوغِلُ في الأبارتايد الذي ما عاد يمكن إخفاؤه على الإطلاق. وليس من غير دلالةٍ، في هذا الخصوص، أن المؤرخ بني موريس الذي وثَّق طرد الفلسطينيين، ونكبتهم، لا ينتقد بن غوريون، لكونه خطّط لطرد غالبية الفلسطينيين، بل لأنه عجز عن طردهم كلهم.
يعرف الإسرائيليون أن دولتهم هشّة، وليس سبب هشاشتها أن العرب الذين يحيطون بها يهددونها. بل بالعكس. هي التي تهددهم، منذ اللحظة الأولى التي أدخلت الإمبريالية البريطانية فيها تصورها في منتصف القرن التاسع عشر لدولة/ مستوطنة، على طريق الهند. وليس السبب في هشاشة إسرائيل أن الفلسطينيين أشرار، بل لأن مشروعها شرير. وإلا فمن أين يأتي كل هذا الشر الذي يتحدث عنه المعلقون الإسرائيليون، بخصوص طبقتهم السياسية، ووجدانهم الجمعي الذي يرى في دمار الفلسطينيين والعرب خيراً عميماً لهم؟
****
يكابد العرب، اليوم، أزمة الخروج من التسلطية وسيروراتها التاريخية المعقدة، والطويلة على وجه الخصوص. وإذ يتسارع التفكك الذي يرافق الخروج من التسلطية وتتفاقم المشكلات، يبدو الإسرائيليون، وأنصارهم، في الولايات المتحدة الأميركية، على عجلة من أمرهم. إنهم يريدون استثمار الظروف الحالية واستغلالها، من أجل فرض "حل" على الفلسطينيين، يقولون هم أنفسهم عنه، إنه ينهي المطالب الفلسطينية نهائياً. يشرح هذا الحاحهم الهستيري، اليوم، على ضرورة أن يعترف الفلسطينيون، بالذات، بأن إسرائيل هي الدولة القومية "للشعب اليهودي"، أي بيهودية إسرائيل، وأن تقوم منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني بهذا الاعتراف.
لا تزال إسرائيل في وعي الفلسطينيين، وفي عمق الوجدان الشعبي العربي، دولةَ الصهيونية التي أنتجت النكبة بقوة السيف؛ وسيبقى 1948 عامَ النكبة في المقام الأول، وما يتصل بذلك من رموز ومعانٍ. إنها، في وعينا، الأمر الواقع الذي وفّر له ضعفُنا والوضعُ الدوليُّ وتلاعبات القوى الكبرى أن ينجز ما أنجز. لكن هذه الإنجازات لم تتمكن من زحزحة الدولة الصهيونية، في وعينا، من موقعها، كعدوان على شرقي المتوسط الذي ننتمي إليه.
أما نظام الأبارتايد الذي تُشيّده فهو موطنُ عطبها وجرثومتُه؛ ومصيره التفكيك.