19 أكتوبر 2019
المشهد اللغوي المغاربي
تتميز المنطقة العربية بحالة اللاحسم في القضايا المركزية، ومنها الهوية واللغة. ويشكل غياب الحسم اللغوي عائقاً للنمو الاجتماعي والاقتصادي، فضلا عن كونه قضية خلافية "تلهي" الحكومات والشعوب عن مسائل الرقي الحضاري والتنمية الاقتصادية، وخصوصا أن مسألة اللغة، مثل الهوية، قضية خلافية، كونها تربة خصبة للصراع الأيديولوجي والمصلحي ولتعذّر الإجماع المطلوب، فلا السلطة (في الدول العربية) شرعية، حتى تحسم المسألة اللغوية، ولا المعارضة شرعية وقوية، لتقول كلمتها في الأمر. أما الخطاب الرسمي عن اللغة العربية وقوانين "التعريب"، فيناقضه الواقع، ففي دول المشرق تستحوذ الإنكليزية تقريباً على كل شيء. وفي المغرب العربي، الفرنسية حاضرة بقوة في الحياتين، الرسمية والاجتماعية. طبعاً تعودت الأنظمة التسلطية العربية على تأجيل الحسم في أمهات الأمور، منكبّة على ضمان بقائها وتجديد سيطرتها، بمختلف المبرّرات والمسوغات.
عادت المسألة اللغوية إلى الواجهة السياسية في الآونة الأخيرة في أكبر دولتين في المغرب العربي، الجزائر والمغرب. جدال جديد لا ينتظر منه أن يزيل الغبار عن تراكماتٍ سياسيةٍ واجتماعية تعود إلى عقود، ناهيك عن حسم الأمر نهائياً. إذ من المرجح أن يبقى المشهد اللغوي، في المغرب العربي عموماً، متأرجحاً بين "التعريب" الجزئي وغير الموفق والاعتماد على الفرنسية، سيما في الإدارة والاقتصاد. للإشارة، ذهب "التعريب" ضحية المصالح والحسابات النخبوية، فهؤلاء الذين "عرّبوا" المقرّرات المدرسية لأبناء الشعب، في المغرب والجزائر، واصلوا تدريس أولادهم في المدارس الفرنسية!
المثير للانتباه الاختلاف الكبير بين خياري المغرب والجزائر. في وقت اختار فيه المغرب تعزيز استعمال الفرنسية في التعليم، تُطرح في الجزائر فكرة استبدال الفرنسية بالإنكليزية، بحجة أنها اللغة العلمية الأولى في العالم.
أقرّ البرلمان المغربي، نهاية الشهر المنصرم (يوليو/ تموز)، قانوناً يدعم مكانة اللغة الفرنسية
في المنظومة التربية، حيث ستُدرَّس المواد/ المقرّرات "العلمية" (أو التقنية) مثل الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية بالفرنسية، بدل العربية (تدرس بالأخيرة حتى الصف الثانوي). وهذا تراجع عن سياسة التعريب التي اعتمدها المغرب منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. والمفارقة أن حكومة حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) هي من عرض هذا القانون على البرلمان وصوّت عليه نواب الحزب الذي ظهرت بعض انقسامات فيه قد تؤثر مستقبلاً على ثقله السياسي في البلاد، بسبب هذا القانون...
من المستبعد أن يكون قرار "فرنسة" المنظومة التربوية المغربية (مجدّداً) قراراً عبثياً، لأن المسألة في غاية الحساسية سياسياً واجتماعياً. ويعتبر هذا القرار جولة جديدة من جولات الصراع التاريخي بين التيارين، الفرانكفوني والعروبي. ويدل هذا القرار الذي اتخذته المؤسسة الملكية على المزاجية السياسية في إدارة المسألة اللغوية: العمل بالعربية تارة وبالفرنسية تارة أخرى، من دون أن يستقر الأمر اللساني على لغة واحدة، أو توازنٍ بين لغات عدة. ربما النقطة الإيجابية المنتظرة هي وضع حد لمهزلة التعليم في المغرب (والمشهد نفسه في الجزائر): العربية هي لغة التدريس في معظم المقرّرات في المستويات ما قبل الجامعة، بينما الفرنسية هي لغة التدريس في أغلب التخصصات في الجامعة!
أما الجزائر، فيطرح حالياً وزراء من حكومتها، المرفوضة شعبياً، قضية التدريس بالإنكليزية، واعتمادها في عالم الاقتصاد بدل الفرنسية. ويثير طرح هذه الفكرة، في سياق الحراك الشعبي في البلاد، شبهاتٍ كثيرة، لا سيما أن المسألة اللغوية في الجزائر على درجةٍ عاليةٍ من الحساسية والتعقيد، وهي كانت ولا زالت ضحية التخندق الأيديولوجي والاعتبارات المصلحية، وليس العلمية. ومن ثم تثير هذه الفكرة نقاشات وانقسامات كثيرة في البلاد. وحجة أصحابها أن الانكليزية لغة عالمية، وأن فرنسا ذاتها تدرس في بعض جامعاتها بالإنكليزية.. هذه الحجج صحيحة، لكنها قد تكون أيضاً، كما في الحالة المغربية، حقاً أريد بها باطل، نظراً إلى الطبيعة السياسية للمسألة اللغوية.
الحقيقة أن لا الفرنسية ولا العربية (بعد عقود من "التعريب") سمحت لهذه البلدان بأن تتطوّر
اقتصادياً واجتماعياً، وسياسياً، لأن المشكلة ليست في اللغة، وإنما في من يتحدّثون بها، فكم عدد البلدان المتخلفة التي تعتمد الإنكليزية لغة رسمية؟ لماذا بطل مفعول الإنكليزية، لغة علم، فيها؟ المشكلة تكمن في هذه البلدان وليست في اللغة، فالنخب الحاكمة في دول المشرق العربي تكونت بالإنكليزية، لكن حصيلتها سيئة... ثم إن المشهد اللغوي المغاربي، وتحديداً في الجزائر والمغرب، ثلاثي الأبعاد: العربية والأمازيغية والفرنسية. ما يعني مزيداً من التخبط اللغوي، نظراً لاستعصاء حسم العلاقة بين العربية والفرنسية من جهة، وبين العربية والأمازيغية من جهة ثانية، وحتى بين الأمازيغية والفرنسية من جهة ثالثة. وفي حالة الجزائر، تضاف إليها الإنكليزية. فإذا كانت السطات السياسية فشلت في حسم هذه العلاقة المتشابكة بين اللغات الثلاث، كيف بها أن تنجح مع إضافة لغة رابعة؟
الواقع أن دول المغرب العربي لا هي نجحت في "فرنسة" منظومتها التربوية، ولا هي نجحت في "تعريبها"، إذ تبقى تتخبّط بين نماذج لغوية، مع سيطرة للفرنسية في الهيئات الرسمية والإدارة والاقتصاد والتعليم العالي. لكن هذه السيطرة لا تعني نجاحاً من حيث التحكم في اللغة الفرنسية، فقطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمعات المغاربية لا تتحكّم فيها، بل ولا تتكلمها.. المشكلة أن "الفرنسة" و"التعريب" وفكرة اعتماد الإنكليزية تمت مقاربتها كلها سياسياً، بمعنى أنها اعتمدت أداة سياسية في صراع النفوذ والمصالح، وليس أداة لتطوير المنظومة التربوية. "الفرنسة" اعتمدت رفضا للعربية، و"التعريب" اعتمد رفضا للفرنسية، فكان الفشل في الحالتين. لذا من المستبعد أن تنجح "فرنسة" اليوم أين "فشلت "فرنسة" الأمس، فالمشكلة ليست في اللغة، وإنما في أهلها. صحيحٌ أن تردّي مستوى التعليم في الدول المغاربية تزامن واستفحل مع "تعريب" المنظومة التربوية، ولكن لا يمكن تحميل العربية، لغةً، مسؤولية ما آلت إليه الأمور، كما لا يمكن تحميل الفرنسية، لغةً، تبعات الحصيلة السيئة للنخب المغاربية الحاكمة، منذ الاستقلال، بحجة أن الفرنسية هي لغة تكوينها.
عادت المسألة اللغوية إلى الواجهة السياسية في الآونة الأخيرة في أكبر دولتين في المغرب العربي، الجزائر والمغرب. جدال جديد لا ينتظر منه أن يزيل الغبار عن تراكماتٍ سياسيةٍ واجتماعية تعود إلى عقود، ناهيك عن حسم الأمر نهائياً. إذ من المرجح أن يبقى المشهد اللغوي، في المغرب العربي عموماً، متأرجحاً بين "التعريب" الجزئي وغير الموفق والاعتماد على الفرنسية، سيما في الإدارة والاقتصاد. للإشارة، ذهب "التعريب" ضحية المصالح والحسابات النخبوية، فهؤلاء الذين "عرّبوا" المقرّرات المدرسية لأبناء الشعب، في المغرب والجزائر، واصلوا تدريس أولادهم في المدارس الفرنسية!
المثير للانتباه الاختلاف الكبير بين خياري المغرب والجزائر. في وقت اختار فيه المغرب تعزيز استعمال الفرنسية في التعليم، تُطرح في الجزائر فكرة استبدال الفرنسية بالإنكليزية، بحجة أنها اللغة العلمية الأولى في العالم.
أقرّ البرلمان المغربي، نهاية الشهر المنصرم (يوليو/ تموز)، قانوناً يدعم مكانة اللغة الفرنسية
من المستبعد أن يكون قرار "فرنسة" المنظومة التربوية المغربية (مجدّداً) قراراً عبثياً، لأن المسألة في غاية الحساسية سياسياً واجتماعياً. ويعتبر هذا القرار جولة جديدة من جولات الصراع التاريخي بين التيارين، الفرانكفوني والعروبي. ويدل هذا القرار الذي اتخذته المؤسسة الملكية على المزاجية السياسية في إدارة المسألة اللغوية: العمل بالعربية تارة وبالفرنسية تارة أخرى، من دون أن يستقر الأمر اللساني على لغة واحدة، أو توازنٍ بين لغات عدة. ربما النقطة الإيجابية المنتظرة هي وضع حد لمهزلة التعليم في المغرب (والمشهد نفسه في الجزائر): العربية هي لغة التدريس في معظم المقرّرات في المستويات ما قبل الجامعة، بينما الفرنسية هي لغة التدريس في أغلب التخصصات في الجامعة!
أما الجزائر، فيطرح حالياً وزراء من حكومتها، المرفوضة شعبياً، قضية التدريس بالإنكليزية، واعتمادها في عالم الاقتصاد بدل الفرنسية. ويثير طرح هذه الفكرة، في سياق الحراك الشعبي في البلاد، شبهاتٍ كثيرة، لا سيما أن المسألة اللغوية في الجزائر على درجةٍ عاليةٍ من الحساسية والتعقيد، وهي كانت ولا زالت ضحية التخندق الأيديولوجي والاعتبارات المصلحية، وليس العلمية. ومن ثم تثير هذه الفكرة نقاشات وانقسامات كثيرة في البلاد. وحجة أصحابها أن الانكليزية لغة عالمية، وأن فرنسا ذاتها تدرس في بعض جامعاتها بالإنكليزية.. هذه الحجج صحيحة، لكنها قد تكون أيضاً، كما في الحالة المغربية، حقاً أريد بها باطل، نظراً إلى الطبيعة السياسية للمسألة اللغوية.
الحقيقة أن لا الفرنسية ولا العربية (بعد عقود من "التعريب") سمحت لهذه البلدان بأن تتطوّر
الواقع أن دول المغرب العربي لا هي نجحت في "فرنسة" منظومتها التربوية، ولا هي نجحت في "تعريبها"، إذ تبقى تتخبّط بين نماذج لغوية، مع سيطرة للفرنسية في الهيئات الرسمية والإدارة والاقتصاد والتعليم العالي. لكن هذه السيطرة لا تعني نجاحاً من حيث التحكم في اللغة الفرنسية، فقطاعاتٌ واسعةٌ من المجتمعات المغاربية لا تتحكّم فيها، بل ولا تتكلمها.. المشكلة أن "الفرنسة" و"التعريب" وفكرة اعتماد الإنكليزية تمت مقاربتها كلها سياسياً، بمعنى أنها اعتمدت أداة سياسية في صراع النفوذ والمصالح، وليس أداة لتطوير المنظومة التربوية. "الفرنسة" اعتمدت رفضا للعربية، و"التعريب" اعتمد رفضا للفرنسية، فكان الفشل في الحالتين. لذا من المستبعد أن تنجح "فرنسة" اليوم أين "فشلت "فرنسة" الأمس، فالمشكلة ليست في اللغة، وإنما في أهلها. صحيحٌ أن تردّي مستوى التعليم في الدول المغاربية تزامن واستفحل مع "تعريب" المنظومة التربوية، ولكن لا يمكن تحميل العربية، لغةً، مسؤولية ما آلت إليه الأمور، كما لا يمكن تحميل الفرنسية، لغةً، تبعات الحصيلة السيئة للنخب المغاربية الحاكمة، منذ الاستقلال، بحجة أن الفرنسية هي لغة تكوينها.