يبدي الأستاذ صبري حافظ دهشته حيال عرض "جمهورية أفلاطون" من ضمن عروض أخرى متعدّدة اشتملت عليها الدورة التاسعة والستون لمهرجان أفينيون المسرحي في فرنسا. ويوضّح أنه عمل فنيّ عن ذلك النص المؤسّس في الفكر الفلسفي الغربي الذي تُرجم إلى أغلب لغات العالم، لكن في ترجمة جديدة أنجزها ألان باديو أحد أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين استغرقت منه أحد عشر عاماً، ومن خلالها حاول أن يدير حواره الخاص كمفكر معاصر مع هذا النص المؤسّس.
وينبغي القول إن هذه الدهشة استتبعت أخرى بإزاء قدرة الإبداع، حين يكون مستنداً إلى ثقافة عقلية نقدية، على أن تكون له كلمة عليا على السياسة. وهو يقدّم، نموذجاً على ذلك، شعار المهرجان "أنا الآخر" بصفته بديلاً لشعار "أنا شارلي" الذي رفعه ساسة سطحيون بعد الهجوم الدموي على "شارلي إيبدو" في يناير/ كانون الثاني الفائت، بقصد تعميق مأزق الهويات القاتلة والمتصارعة، الذي يسيطر فيه التعصب والعداء للآخر.
إن باديو سبق أن رأى أن الإغواء الأكثر جذرية في القرن العشرين الفائت تمثّل باعتبار الفلسفة في مكانة ثانوية وتابعة شرعياً للالتزام السياسي. وحتى وإن لم يعتبر هذا الأخير نافلاً، إلا إنه أشار إلى أن الالتزام السياسي له قوانينه الخاصة المغايرة لقوانين الفلسفة، بالإضافة لكونه موجوداً في خضم حالة استعجال للحاضر، وانتظام للمسؤوليات، ولأسلوب خاص جداً للنقاش، فضلاً عن اتسامه بالحماس الزائد الذي يعدّه بمثابة نزعة مفترسة. بكلمات أخرى فإنه إلى الإلزام أقرب.
وبغية تقريب المسألة من تجربتنا الخاصة، ربما تشكل عملية نشوء المسرح العبري في إسرائيل مثالاً صارخاً على تبعية الثقافة العمياء للالتزام السياسي. فلقد أولى قادة "الييشوف" الاستيطاني الصهيوني في فلسطين اهتماماً خاصاً للنشاط المسرحي والفني عموماً، في سبيل تسخيرهما لنشر الأفكار الصهيونية. وبرز في صلب هذا الاهتمام الدعم المادي المباشر الذي قدمه "الييشوف" إلى الفرق الفنية والمسرحية، وكذلك إلى دور نشر الكتب، وذلك بهدف "خلق قاعدة روحية وجدانية للمهاجرين اليهود من شتى بقاع الأرض، المرشحين لأن يكونوا مجتمعاً قومياً واحداً في فلسطين".
اقرأ أيضاً: أفكار خاصة برسم التثاقف
وفي مقابل هذا الدعم، طلب إلى تلك الفرق أن تنضوي تحت لواء الفكر الصهيوني، وأن تتناول، في نشاطها، أي مواضيع تسند "الإجماع القومي الصهيوني".
لعل أكثر ما يمثل ذلك - لا على سبيل الحصر- هو تناول مسألة الصراع بين الشرق والغرب في المسرح العبري.
في هذه المسألة نصادف أن زعماء الصهيونية و"الييشوف" حسموا أمرهم منذ اللحظة الأولى إلى ناحية تشييد ثقافة غربية في "الدولة اليهودية"، مع ما يترتب على ذلك من وجوب مقاومة التعددية المجتمعية، ومحو الهوية والتراث الشرقيين لدى يهود الدول العربية.
وبالنسبة إلى هؤلاء كانت الثقافة، التي يسعون لجعلها "ثقافة ذات نمط إسرائيلي"، هي ثقافة غربية خالصة. أما الثقافة الشرقية فقد اعتبرت، في أحسن الحالات، مجرّد "فولكلور عائد إلى مرحلة منقضية أو بائدة".
في سنة 1951، أعلن ديفيد بن غوريون، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأوّل، أن دولة إسرائيل لن تعمل على تنمية وتطوير الفولكلور الشرقي، وإنما ستعمل من أجل تغيير المهاجرين الشرقيين وصهرهم في "بوتقة" الثقافة الإسرائيلية (ضمن تطبيق ما عُرف بـ"سياسة بوتقة الصهر").
والأمر اللافت للانتباه هنا أنه في سبيل قطع المهاجرين الشرقيين عن أي صلة لهم بجذورهم، دأبت الدعاية الرسمية الإسرائيلية، منذ بداياتها الأولى، على خلع نعوت عنصرية على اليهود العرب من منطلق الرؤية الأشد عنصرية في تبرير الاختلاف الحضاري بينهم وبين اليهود الغربيين، على أساس الانتماء إلى "مجتمعات عليا" أو إلى "مجتمعات دونية".
ويمكن أن نكتفي بمثال واحد على ذلك يرتبط بموضوع المسرح:
في الأعوام الأولى لإقامة دولة إسرائيل، جرى تكليف شخص بتأسيس ما يسمى بـ"مسرح المعبروت" ("المعبروت" مفردها "معبراة" وتعني الحي الانتقالي من الزنك، والذي جرى توطين المهاجرين اليهود العرب فيه فور قدومهم). وأعلن أن القصد من وراء ذلك هو ترفيه هؤلاء المهاجرين و"التخفيف من وطأة استيعابهم في المجتمع الجديد".
اقرأ أيضاً: "الصمت" حين يُمسرح
ويمكن القول إن ما بقي من هذا المشروع، الآن، هو تشخيص ذلك الشخص للمناخ الثقافي السائد في أوساط اليهود العرب. فبعد توصيفه لهم بأنهم "خليط من الغوغاء"، كتب أن ثمة هوة عميقة، شبيهة بجهنم، بين هذا الخليط وبين مستوطني "الييشوف" (من اليهود الغربيين)، وأفراد الخليط - حسب تعبيره - هم أناس "بعيدون مسافة سنوات ضوئية عديدة عن الحضارة والثقافة، وأُميُّون، وانقطاعهم الروحانيّ عن الثقافة اليهودية جعل منهم أرضاً مالحة لا يمكن تحليتها إلا عن طريق غسلها المستمر"!
وينبغي القول إن هذه الدهشة استتبعت أخرى بإزاء قدرة الإبداع، حين يكون مستنداً إلى ثقافة عقلية نقدية، على أن تكون له كلمة عليا على السياسة. وهو يقدّم، نموذجاً على ذلك، شعار المهرجان "أنا الآخر" بصفته بديلاً لشعار "أنا شارلي" الذي رفعه ساسة سطحيون بعد الهجوم الدموي على "شارلي إيبدو" في يناير/ كانون الثاني الفائت، بقصد تعميق مأزق الهويات القاتلة والمتصارعة، الذي يسيطر فيه التعصب والعداء للآخر.
إن باديو سبق أن رأى أن الإغواء الأكثر جذرية في القرن العشرين الفائت تمثّل باعتبار الفلسفة في مكانة ثانوية وتابعة شرعياً للالتزام السياسي. وحتى وإن لم يعتبر هذا الأخير نافلاً، إلا إنه أشار إلى أن الالتزام السياسي له قوانينه الخاصة المغايرة لقوانين الفلسفة، بالإضافة لكونه موجوداً في خضم حالة استعجال للحاضر، وانتظام للمسؤوليات، ولأسلوب خاص جداً للنقاش، فضلاً عن اتسامه بالحماس الزائد الذي يعدّه بمثابة نزعة مفترسة. بكلمات أخرى فإنه إلى الإلزام أقرب.
وبغية تقريب المسألة من تجربتنا الخاصة، ربما تشكل عملية نشوء المسرح العبري في إسرائيل مثالاً صارخاً على تبعية الثقافة العمياء للالتزام السياسي. فلقد أولى قادة "الييشوف" الاستيطاني الصهيوني في فلسطين اهتماماً خاصاً للنشاط المسرحي والفني عموماً، في سبيل تسخيرهما لنشر الأفكار الصهيونية. وبرز في صلب هذا الاهتمام الدعم المادي المباشر الذي قدمه "الييشوف" إلى الفرق الفنية والمسرحية، وكذلك إلى دور نشر الكتب، وذلك بهدف "خلق قاعدة روحية وجدانية للمهاجرين اليهود من شتى بقاع الأرض، المرشحين لأن يكونوا مجتمعاً قومياً واحداً في فلسطين".
اقرأ أيضاً: أفكار خاصة برسم التثاقف
وفي مقابل هذا الدعم، طلب إلى تلك الفرق أن تنضوي تحت لواء الفكر الصهيوني، وأن تتناول، في نشاطها، أي مواضيع تسند "الإجماع القومي الصهيوني".
لعل أكثر ما يمثل ذلك - لا على سبيل الحصر- هو تناول مسألة الصراع بين الشرق والغرب في المسرح العبري.
في هذه المسألة نصادف أن زعماء الصهيونية و"الييشوف" حسموا أمرهم منذ اللحظة الأولى إلى ناحية تشييد ثقافة غربية في "الدولة اليهودية"، مع ما يترتب على ذلك من وجوب مقاومة التعددية المجتمعية، ومحو الهوية والتراث الشرقيين لدى يهود الدول العربية.
وبالنسبة إلى هؤلاء كانت الثقافة، التي يسعون لجعلها "ثقافة ذات نمط إسرائيلي"، هي ثقافة غربية خالصة. أما الثقافة الشرقية فقد اعتبرت، في أحسن الحالات، مجرّد "فولكلور عائد إلى مرحلة منقضية أو بائدة".
في سنة 1951، أعلن ديفيد بن غوريون، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأوّل، أن دولة إسرائيل لن تعمل على تنمية وتطوير الفولكلور الشرقي، وإنما ستعمل من أجل تغيير المهاجرين الشرقيين وصهرهم في "بوتقة" الثقافة الإسرائيلية (ضمن تطبيق ما عُرف بـ"سياسة بوتقة الصهر").
والأمر اللافت للانتباه هنا أنه في سبيل قطع المهاجرين الشرقيين عن أي صلة لهم بجذورهم، دأبت الدعاية الرسمية الإسرائيلية، منذ بداياتها الأولى، على خلع نعوت عنصرية على اليهود العرب من منطلق الرؤية الأشد عنصرية في تبرير الاختلاف الحضاري بينهم وبين اليهود الغربيين، على أساس الانتماء إلى "مجتمعات عليا" أو إلى "مجتمعات دونية".
ويمكن أن نكتفي بمثال واحد على ذلك يرتبط بموضوع المسرح:
في الأعوام الأولى لإقامة دولة إسرائيل، جرى تكليف شخص بتأسيس ما يسمى بـ"مسرح المعبروت" ("المعبروت" مفردها "معبراة" وتعني الحي الانتقالي من الزنك، والذي جرى توطين المهاجرين اليهود العرب فيه فور قدومهم). وأعلن أن القصد من وراء ذلك هو ترفيه هؤلاء المهاجرين و"التخفيف من وطأة استيعابهم في المجتمع الجديد".
اقرأ أيضاً: "الصمت" حين يُمسرح
ويمكن القول إن ما بقي من هذا المشروع، الآن، هو تشخيص ذلك الشخص للمناخ الثقافي السائد في أوساط اليهود العرب. فبعد توصيفه لهم بأنهم "خليط من الغوغاء"، كتب أن ثمة هوة عميقة، شبيهة بجهنم، بين هذا الخليط وبين مستوطني "الييشوف" (من اليهود الغربيين)، وأفراد الخليط - حسب تعبيره - هم أناس "بعيدون مسافة سنوات ضوئية عديدة عن الحضارة والثقافة، وأُميُّون، وانقطاعهم الروحانيّ عن الثقافة اليهودية جعل منهم أرضاً مالحة لا يمكن تحليتها إلا عن طريق غسلها المستمر"!