24 فبراير 2017
المسرح السوري وتقسيم العمل الإيراني الروسي
تشهد الأزمة السورية نقلة كبيرة مع وصول مئات الجنود الروس إلى سورية، برفقة أحدث ما لدى الجيش الروسي من طائرات ودبابات. تذكّر هذه النقلة بنقلة أخرى، مرت بها الأزمة عقب انخراط إيران، وحلفائها من المليشيات العراقية واللبنانية، إلى جانب النظام بعد معارك صيف 2012.
تعلم روسيا التي راقبت انتكاسات النظام في الأشهر القليلة الماضية أن الجيش النظامي فقد كل رغبة أو قدرة على تحقيق اختراق ذي معنى في الحرب الدائرة داخل سورية، وأن سياسة دعم الجيش بقوى غير نظامية من عناصر سورية في البداية، ومن ثمّة، رفده بعناصر عراقية ولبنانية في مرحلة ثانية، وأفغانية ثالثاً ثم إيرانية في النهاية، لم تعد تجدي نفعاً سوى في المحافظة على بعض المناطق، واستعادة بعضها، ما يعد "حيوياً ومهماً"، لكن، من وجهة نظر إيران.
ولكي يرد حلفاء النظام على الانتكاسات التي تعرّض الجيش النظامي لها، وخصوصاً في إدلب ودرعا، فإن الاختيار انحصر في واحد من أمرين: إيفاد قوات عسكرية من عشرات آلاف العناصر، إلى ساحة القتال، تواجه، كتفاً إلى كتف الجيش النظامي، الثوار، أو الرضوخ لمنطق التسوية الأميركي السعودي.
وقد عرضت إيران، بشكل علني، إرسال قواتها إلى سورية. وبالفعل، وصل مئات الجنود الجدد إلى سورية، بعد زيارة وزير دفاع النظام، فهد الفريج، إلى طهران في أبريل/نيسان الماضي، وانتشروا في الساحل وحماة وحمص ودمشق. وعلى أية حال، فقد ظلوا بعيدين عن الأنظار. ومنذ ذلك الحين، غدت التصرفات الإيرانية أكثر إحراجاً للنظام. ولكن، لم يكن هناك بدّ من السكوت. وطرأ تحول على استراتيجية النظام في شهر مايو/ أيار، عندما طلب بشار الأسد، في مقابلة مع وسائل إعلام روسية، من روسيا تعزيز وجودها في سورية. لم يكتف بهذا الطلب، بل أرسل موفدين أمنيين وعسكريين رفيعين إلى موسكو، لمناقشة الطلبات السورية.
ولأن موسكو لم تكن تريد أن تتنازل بسهولة أمام خسائر النظام، أو أن تغطي تدفق عشرات الآلاف من جنود الحرس الثوري الإيراني، والذي قد ينتهي بتفاهم إيراني أميركي بشأن سورية، فقد أخذت قرارها بالتدخل لصالح النظام. مع ذلك، اقتضى القرار الروسي حصول اتفاق بين روسيا وإيران على خطة التحرك وتقسيماً للعمل. لذلك، أوفدت طهران رجلها، قاسم سليماني، إلى موسكو لعقد التفاهمات الرئيسية.
ولفهم مجريات العمليات العسكرية المستقبلية، وتحليل عناصر تقسيم العمل بين موسكو وطهران، على الأرض السورية، لا بد من استقراء المصالح الروسية والإيرانية في سورية والمنطقة.
تقسيم العمل
تعد منطقة الساحل السورية نقطة انطلاق للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط. ولموسكو قلق وهواجس من دور تركيا في شمال سورية، لانعكاساته المحتملة على استراتيجيتها البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط. وموسكو مهتمة بالتطبيقات الجيوسياسية للجغرافية السورية التي تشكل "مسرحاً استراتيجياً" يؤثر في قضايا حيوية عديدة للنظامين الدولي أو الإقليمي: (الصراع العربي الإسرائيلي، القضية الفلسطينية، القضية الكردية، الصراع العربي الفارسي، الصراع التركي الفارسي، الصراع السني الشيعي، أنابيب النفط والغاز، أمن الخليج).
هذه العوامل تجعل الاهتمام الروسي يطاول جميع أجزاء الجغرافية السورية، على أن يتم التعامل مع هذه الأجزاء وفق أولويات متدرجة، تشمل الساحل ومتعلقاته في إدلب في البداية، وفي الأهمية نفسها، زيادة طوق الأمان حول دمشق، ولاحقاً مدينة حلب، ثم تأتي بقية المناطق.
في المقابل، تعتبر طهران أن السيطرة على منطقة دمشق الكبرى، والتي تضم مدينة حمص بطبيعة الحال، أولوية لاتصالها بلبنان عبر القلمون وريف حمص، واتصالها بالعراق عبر البادية، وبفلسطين عبر سهل حوران والقنيطرة. وتقلق إيران من الاستراتيجية السعودية، عدوتها الإقليمية التي تحاول الانقضاض على دمشق، عبر رؤوس جسور تنطلق من غوطة دمشق وسهل حوارن. فالاستراتيجية الإيرانية في سورية لا تهتم بكامل الأراضي السورية، بل بتحقيق التواصل بين سورية والعراق عبر حمص، وبين لبنان وسورية عبر حمص وريف دمشق، وجنوب سورية مهم بالنسبة لطهران للضغط على إسرائيل. والخطورة في مشروع إيران السوري أنها تعمل على إحداث تغييرات ديمغرافية، من قبيل تهجير سكان منطقة ما، وإحلال سكان آخرين (شيعة على الأغلب) مكانهم.
وبناءً على ذلك، يمكن توقع أن تركز إيران عملياتها في أي تقسيم عمل على جنوب سورية وشرقها، في مقابل تركيز روسيا على الأقل في المرحلة الأولى، على شمال سورية وغربها. حيث ستعمل روسيا على زيادة تأمين منطقة الساحل، عبر استعادة السيطرة على مدينة جسر الشغور في ريف إدلب، ومن هناك، تدمير الاستراتيجية التركية المنادية بـ"حلب أولاً"، عبر إسقاط للقوة من الساحل إلى المدينة عبر طريق اللاذقية - حلب المار من سراقب وأريحا. لكن موسكو ستكون حريصة على زيادة تأمين النظام في دمشق، بمساعدته على حسم بؤر درعا وغوطة دمشق.
وعلى أية حال، يؤكد وصول قوات روسية إلى العاصمة دمشق وانتشارها في العباسيين وانتقال قيادة العمليات على جبهة جوبر من الإيرانيين إلى الروس، نيات روسية حيال غوطة دمشق الشرقية عموماً.
انعكاسات.. وخطوط حمر جديدة
أعاد الانتشار الروسي في سورية التأكيد على خطوط موسكو الحمراء في الأزمة السورية. وجاء الوجود العسكري ليوفر ضمانة صلبة لمصالح روسيا الحيوية في سورية، سواء في استمرار النظام، أو في ضمان أمن الساحل السوري.
انهارت الضمانات التي قدمتها واشنطن لموسكو، بخصوص عدم تعريض الساحل لتهديد
في المقابل، ستشدد طهران على خطوطها الحمراء السابقة، والتي تشمل خطوط التواصل بين النظام وحزب الله وحمص والسيدة زينب في ريف دمشق، بينما ستضطر كلّ من واشنطن وأنقرة والرياض وعمّان وإسرائيل للتكيّف مع الوجود الروسي العسكري، وربما التنسيق مع موسكو.
فتحت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أبواب التنسيق العسكري مع روسيا. وبينما ما زال من المبكر القول إن واشنطن وموسكو وصلتا إلى تقسيمٍ يحصر الجهد الحربي الأميركي في العراق، والروسي في سورية، فقد دلت عدة مؤشرات على نية إسرائيل حصر عملياتها في محافظة القنيطرة، وربما في محيط قرية حضر فقط، حيث أسس حزب الله وإيران بنية مؤيدة لهما. في المقابل، انسحبت عمّان إلى موقع الحياد وقررت تفكيك غرفة "الموك"، وهو قرار يبدو أن واشنطن ليست بعيدة منه. وربما كانت السعودية وتركيا أكثر الأطراف المستهدفة من الانتشار العسكري الروسي. السعودية التي تعتقد أن دمشق لا بد أن تُنتزع من براثن النفوذ الإيراني، وتعود عربيةً كما كانت، سيكون عليها تأكيد خطها الأحمر حول غوطة دمشق الشرقية وحوران، بينما ستجد تركيا نفسها أمام تحد كبير فيما يتعلق بإدلب، وأكبر فيما يتعلق بحلب.
وسبق لسورية أن اجتازت مرحلة مماثلة، في مطالع العام 2013، إبّان بدايات الدخول الإيراني العسكري إلى البلاد، حيث تم تحديد دوائر وخطوط حمر لتقييد الحركة الإيرانية في الميدان السوري، وخصوصاً في شمال البلاد وجنوبها. وأدى خرق إيران، في مطلع العام الجاري، هذه الخطوط الحمراء، إلى تفعيل التحالف التركي السعودي، والذي تمكّن من كسر الهجمة الإيرانية نحو درعا وحلب في البداية، ومن ثمة قلب الطاولة على الإيرانيين والنظام، عبر هجومين في إدلب ودرعا، استدعيا الانتشار الروسي الحالي.
لكن، هناك هذا الفارق الأساسي بين التدخليْن، الإيراني والروسي، بالنسبة لكل من تركيا والسعودية. لقد عرّفت أنقرة والرياض التدخل الإيراني بوصفه "احتلالاً لسورية"، و"عدواناً" على مصالحهما، لكنهما ارتبكتا إزاء التدخل الروسي، على الرغم من محاولات الرياض المنفردة لوضع حدود معينة.
وفي النهاية، فإن التدخل الروسي، بشكله الحالي، حسّن مواقع إيران الإقليمية، إذ بينما وجدت طهران حليفاً دولياً (روسيا) تشد أزرها به في المواجهة على النفوذ في الهلال الخصيب، وسط تهافت أميركي وغربي على التعاون مع نظام الملالي في المنطقة، فإن أنقرة والرياض لا تثقان كثيراً بحليفهما الدولي (الولايات المتحدة)، وربما اضطرّتا، تحت تأثير ذلك، إلى إطلاق مشاورات سياسية مع موسكو بشأن عملياتهما الإقليمية.
بوتين.. بريجينف أم أندروبوف؟
يرسم بعضهم سيناريو مستقبلياً لسورية بعد التدخل الروسي، مشابهاً لما جرى في أفغانستان عقب الغزو السوفييتي، وهم بذلك يغفلون عن فوراق كبيرة بين الحالتين، ربما في مقدمتها الفارق بين فلاديمير بوتين "الواقعي القاسي"، والرئيس السوفييتي الأسبق، ليونيد بريجنيف "الأيديولوجي المتعصب". وربما كان من الصواب تشبيه بوتين بالزعيم السوفييتي، يوري أندروبوف، وتدخل الأول في سورية، بتدخل الأخير في الأزمة اللبنانية عام 1983، إلى جانب حافظ الأسد المهزوم.
فإثر تحطيم الجيش الإسرائيلي الجيش السوري العامل في لبنان، وتدمير منظومات السلاح السوفييتية المضادة للطائرات والطائرات السوفييتية التي كانت في حوزة حافظ الأسد فوق الأراضي والأجواء اللبنانية، تدخل أندروبوف، بكل قوة، لترميم القوة السورية، بينما لعبت طهران دوراً مهماً في بناء حزب الله الذي عمل على إخراج الإسرائيليين من المناطق الشيعية في لبنان.
يشابه وضع النظام العسكري في مواجهة خصومه وضعه في تلك المرحلة من حرب لبنان. ويعتقد بوتين أنه أندروبوف آخر، سيعيد إنقاذ أسد آخر من مصيره أمام القوى الغربية. وعلى أية حال، لا يبدو أن في وسع روسيا تكرار تجربة أندروبوف في لبنان، وعلى الأرجح، أن يقود التدخل الروسي سورية إلى تجارب مشابهة لما جرى في بلدان أخرى، دخلها الجنود الروس في هذا العقد، مثل جورجيا وأوكرانيا.