28 مايو 2024
المستقبل السعودي بعد خاشقجي
مهنا الحبيل
أكتب اليوم وأمامي ثلاثة اعتبارات صعبة للغاية: الأول حجم آثار الجريمة الغادرة في حق أخينا العزيز الأستاذ جمال خاشقجي، والذي ليس لمهنا الحبيل على الصعيد الشخصي تلك العلاقة المميزة معه، وله مئات من المقرّبين الأوفياء أو الغادرين لدمائه، لكنني كنت على تواصلٍ معه وفهم متتابع لموقفه رحمه الله في المهجر، وقد كافح إلى آخر لحظة، كان يظن فيها أن بقاء الدبلوماسية الثقافية مع الحكم طريق الأمل الأخير. لن أزيد فما كتبته عن استشهاده في حسابات التواصل كان من هذا القلب الذي امتلأ غضباً لأجل جمال، ومن هو قبل جمال.
أما المسار الثاني فأنا أحلل اليوم عن مستقبل دولة، ولم يعد مشروع حكمٍ متهوّرا ومتصاعد الأزمات، فواضحٌ تماماً أن الانقلاب الأميركي على الرياض، حتى لو تمت تسوية الأمور بعد التنسيق مع الأتراك، وتحديد من سيقدم لقصاص التسوية في قضية جمال، فلم يكن الموقف هنا أن واشنطن اكتشفت فجأة، هذا الواقع الفانتازي المخيف في السيناريو السعودي، وإنما هناك رصد وتتبع، وتقديرات تعتني بها مؤسسات واشنطن التي اليوم بات كثيرون من إعلامييها وسياسييها وشركاتها يتسابقون في البراءة من أي صفقات مع الحكم الجديد. .. ماذا يعني هذا؟
قبل طي سجل هذه الصفحة، أعيد التذكير بأن جمال لم يُمنح لجوءاً سياسياً. ونستحضر اليوم مسألة مهمة، عن اتفاق ليس جديدا بين الأميركيين والرياض، منذ عهد وزير الداخلية السابق محمد بن نايف، لكنه تم تفعيله أكثر في عهد الرئيس ترامب والصفقة الجديدة مع ولي العهد السعودي الجديد، وهو بين الداخلية السعودية ونظيرتها الأميركية، يُصعّب ويعقّد منح أي معارض أو إصلاحي سعودي (لم يكن جمال معارضاً بمعنى الناشط المعروف عالمياً) لجوءاً سياسياً. والمساحة المرنة للجوء في واشنطن هي مع حالات التحوّل الديني من الإسلام أو السلوك الجنساني التي تشتكي حقوقيا، وليس للعمل المعارض الديمقراطي، بغض النظر عن اختلافات توجهات أصحابه.
ولم يُمنح جمال أي لجوء حتى لا تترتب أي مسؤولية على واشنطن في ذلك، منح فقط بطاقة
التنقل وتسهيل الإقامة للصحافيين. وكانت إدارة ترامب تدرك وضع جمال والأخطار المحدقة به. ولسنا اليوم في مسألة وضع هذا السيناريو ضمن الخطة الأميركية بالضرورة. لا يطرح كاتب هذه المقالة ذلك هكذا، لكنه يرى أن هناك خيطاً حيوياً بين مصير جمال ورصد المصالح القومية الأميركية التي كانت تزدهر في عهد ترامب، ويوجه عبرها طلباته المذلة إلى الرياض بصورة متكرّرة.
وأن أمن جمال في أي معلومة ترشح للأجهزة الأميركية المعنية لم يكن يؤمّن له مطلقا، وذلك لا يبرّر خطأه الفادح، رحمه الله، في تقديراته الخاصة، وفي اعتقاده أن علاقته بفريق الرئيس أردوغان تمنع أي استهداف له في تركيا. وحتى رحيل جمال عن واشنطن كان يمكن أن يكون ضمن مسارات التسهيل الابتزازي التي تعرضها إدارة ترامب للرياض، لو أن جمال غادر أو ابتعد عن أراضيها حياً ومن دون حدث جلل. وما يجري اليوم أن الأميركيين يتعاملون مع نظام ليس مؤهلا للصمود فترة استراتيجية. وبالتالي آفاق تعاملهم تتجه إلى ثنائية استراتيجية: الأولى تأمين أكبر قدر من المصالح التي تستنزف ما تبقى من ثروة للشعب العربي في المملكة السعودية. والثانية والتي ظلت قائمة في الاستراتيجية الأميركية، وهي كيف تُعد خريطة السعودية (السابقة) في حال تعرّض النظام للسقوط. وكنّا نذكّر دائماً بأن واشنطن لا تسعى بالضرورة إلى إسقاط النظام، ولماذا تفعل؟ لكنها تقرأ سجل التطورات المتوترة، والتي تعيش اليوم أقصى انفعال في وسائل الإعلام، والبنية السياسية الأميركية من الحزبين والبيت الأبيض، وتتجاوز ذلك الموسم بعد تفجيرات "11 سبتمبر" الإرهابية في نيويورك. وهنا سؤال: لكن تلك العاصفة تجاوزتها السعودية في 2001، فلماذا لا تفعل اليوم؟
قبل ذلك، يعاد التذكير هنا بأن دماء الشهيد جمال خاشقجي، وقبله شهداء في عقود مضت، منهم شهيد الأحساء الذي استشهد في سجن الحائر في عهد وزير الداخلية السابق، جمال بن سعد القصيبي، رحمه الله، وضمير المعتقلات والمعتقلين السعوديين، ليست بازاراً دولياً لدينا، بل مبدأ لا يغيره السوق السياسي، وحضور روح جمال في كل قُطر عربي، أيد فيها قلمه الضمير الحر للربيع العربي، وأمّل لكل شعب عربي كرامته وحريّته. ولكننا هنا ندرك العاصفة السياسية التي تجتاح المنطقة، ونتساءل عن مصير هذه الشعوب، لو قُلب القدر على هذه الأنظمة، وعن العقل الاستراتيجي العربي المخلص والمستقل عن حفلات الأنظمة والسادية الوطنجية التي احتفلت بتصفية جمال قبل اغتياله لياليَ طويلة.
هل يمكن أن تغضّ هذه الروح الطرف عن هذه العاصفة؟ وهل أدركنا، بعد تجربة العراق الدموية المرة، حرية أو تسامحا أو وحدة وطنية اجتماعية، أم أن مواسم واشنطن أهلكت ما أنجزناه من حضارة وروح إنسانية عربية لم ينشئها المستبد، مثّلها موزاييك العراق العظيم تحت مفهوم الإسلام المتسامح مع كل أقلية وطائفة تحت ردائه. هذا الرداء المقدس الذي اختطفه زبانية الاستبداد العربي أمس واليوم، فشوهوه بسوط سياسيّيهم وصوت وعّاظهم الدينيين والليبراليين المرتزقة.
هنا اللحظة المهمة، والتي يعني مشهدها، حتى مع تسوية الصفقة بعد التطور الكبير، في علاقة أنقرة بأوروبا وأميركا، على هامش قضية الشهيد جمال خاشقجي، فهل الحكم السعودي سيعيد
التفكير؟ هل سيوقف سياسة القمع وتغييب الإنسان، ويعلن إفراجاً شاملاً عن المعتقلين، ويخرج من الأزمة المصنوعة التي تسحبه إلى مستنقعٍ لا قعر له في قضية الصراع مع قطر؟
هل لديه مساحة لإيقاف هذا التصدّع ومواجهته البناء الديني والاجتماعي والحقوقي والفكري في البلد، ويعلن جمع الناس على تدوين دستور تأسيسي، بعد إجراءات فورية للإصلاح، وانسحابٍ من الحرب المجنونة على كل إسلاميي العالم التي جرّته إليها أبو ظبي.
هذا هو البعد الثالث الذي يكتنفني، وقبل أن أكتب هذا المقال بسنوات، ومنذ 2003، وعبر جهود الحركة الوطنية في الأحساء، ومشاركاتي السياسية مع أبناء أقاليم المملكة قبل اعتزال العمل السياسي، قدمت للنظام رؤى وأفكاراً تسمح بتطوير الدولة، وامتداد عمرها. ولكن في إطار إصلاحي ملموس، يحترم حق الفرد وتعدد ثقافته وكرامته وخبزه، لكنها زهدت لديهم وتاهت في الأدراج. فهل هناك مساحة دقائق يفكر فيها ولي العهد السعودي بغير ما قدّم له فريق أبو ظبي المخابراتي، وبرؤية تسترشد بالمخلصين الذين سجن نخبتهم. حينها وقبل أي حديث، سيتبيّن له أن القوة المنقذة ليست في يد أميركا، وأن مساحة التفاهم مع الأتراك الذين لاعنهم فريقه بكل لغةٍ مجنونةٍ أقرب إليه من صفقات ترامب، عبر المصالح التي تحرّكهم أيضاً، وأن الدوحة التي حاصرها أقرب إليه من أبو ظبي التي لعبت بمصير دولته، فهل سيفعل؟
ستبقى مصالح الشعب، وحقوقه السياسية والاقتصادية الشاملة هي المدار، وحقه في القصاص من قتلة جمال قائماً كلما طلع النهار.
أما المسار الثاني فأنا أحلل اليوم عن مستقبل دولة، ولم يعد مشروع حكمٍ متهوّرا ومتصاعد الأزمات، فواضحٌ تماماً أن الانقلاب الأميركي على الرياض، حتى لو تمت تسوية الأمور بعد التنسيق مع الأتراك، وتحديد من سيقدم لقصاص التسوية في قضية جمال، فلم يكن الموقف هنا أن واشنطن اكتشفت فجأة، هذا الواقع الفانتازي المخيف في السيناريو السعودي، وإنما هناك رصد وتتبع، وتقديرات تعتني بها مؤسسات واشنطن التي اليوم بات كثيرون من إعلامييها وسياسييها وشركاتها يتسابقون في البراءة من أي صفقات مع الحكم الجديد. .. ماذا يعني هذا؟
قبل طي سجل هذه الصفحة، أعيد التذكير بأن جمال لم يُمنح لجوءاً سياسياً. ونستحضر اليوم مسألة مهمة، عن اتفاق ليس جديدا بين الأميركيين والرياض، منذ عهد وزير الداخلية السابق محمد بن نايف، لكنه تم تفعيله أكثر في عهد الرئيس ترامب والصفقة الجديدة مع ولي العهد السعودي الجديد، وهو بين الداخلية السعودية ونظيرتها الأميركية، يُصعّب ويعقّد منح أي معارض أو إصلاحي سعودي (لم يكن جمال معارضاً بمعنى الناشط المعروف عالمياً) لجوءاً سياسياً. والمساحة المرنة للجوء في واشنطن هي مع حالات التحوّل الديني من الإسلام أو السلوك الجنساني التي تشتكي حقوقيا، وليس للعمل المعارض الديمقراطي، بغض النظر عن اختلافات توجهات أصحابه.
ولم يُمنح جمال أي لجوء حتى لا تترتب أي مسؤولية على واشنطن في ذلك، منح فقط بطاقة
وأن أمن جمال في أي معلومة ترشح للأجهزة الأميركية المعنية لم يكن يؤمّن له مطلقا، وذلك لا يبرّر خطأه الفادح، رحمه الله، في تقديراته الخاصة، وفي اعتقاده أن علاقته بفريق الرئيس أردوغان تمنع أي استهداف له في تركيا. وحتى رحيل جمال عن واشنطن كان يمكن أن يكون ضمن مسارات التسهيل الابتزازي التي تعرضها إدارة ترامب للرياض، لو أن جمال غادر أو ابتعد عن أراضيها حياً ومن دون حدث جلل. وما يجري اليوم أن الأميركيين يتعاملون مع نظام ليس مؤهلا للصمود فترة استراتيجية. وبالتالي آفاق تعاملهم تتجه إلى ثنائية استراتيجية: الأولى تأمين أكبر قدر من المصالح التي تستنزف ما تبقى من ثروة للشعب العربي في المملكة السعودية. والثانية والتي ظلت قائمة في الاستراتيجية الأميركية، وهي كيف تُعد خريطة السعودية (السابقة) في حال تعرّض النظام للسقوط. وكنّا نذكّر دائماً بأن واشنطن لا تسعى بالضرورة إلى إسقاط النظام، ولماذا تفعل؟ لكنها تقرأ سجل التطورات المتوترة، والتي تعيش اليوم أقصى انفعال في وسائل الإعلام، والبنية السياسية الأميركية من الحزبين والبيت الأبيض، وتتجاوز ذلك الموسم بعد تفجيرات "11 سبتمبر" الإرهابية في نيويورك. وهنا سؤال: لكن تلك العاصفة تجاوزتها السعودية في 2001، فلماذا لا تفعل اليوم؟
قبل ذلك، يعاد التذكير هنا بأن دماء الشهيد جمال خاشقجي، وقبله شهداء في عقود مضت، منهم شهيد الأحساء الذي استشهد في سجن الحائر في عهد وزير الداخلية السابق، جمال بن سعد القصيبي، رحمه الله، وضمير المعتقلات والمعتقلين السعوديين، ليست بازاراً دولياً لدينا، بل مبدأ لا يغيره السوق السياسي، وحضور روح جمال في كل قُطر عربي، أيد فيها قلمه الضمير الحر للربيع العربي، وأمّل لكل شعب عربي كرامته وحريّته. ولكننا هنا ندرك العاصفة السياسية التي تجتاح المنطقة، ونتساءل عن مصير هذه الشعوب، لو قُلب القدر على هذه الأنظمة، وعن العقل الاستراتيجي العربي المخلص والمستقل عن حفلات الأنظمة والسادية الوطنجية التي احتفلت بتصفية جمال قبل اغتياله لياليَ طويلة.
هل يمكن أن تغضّ هذه الروح الطرف عن هذه العاصفة؟ وهل أدركنا، بعد تجربة العراق الدموية المرة، حرية أو تسامحا أو وحدة وطنية اجتماعية، أم أن مواسم واشنطن أهلكت ما أنجزناه من حضارة وروح إنسانية عربية لم ينشئها المستبد، مثّلها موزاييك العراق العظيم تحت مفهوم الإسلام المتسامح مع كل أقلية وطائفة تحت ردائه. هذا الرداء المقدس الذي اختطفه زبانية الاستبداد العربي أمس واليوم، فشوهوه بسوط سياسيّيهم وصوت وعّاظهم الدينيين والليبراليين المرتزقة.
هنا اللحظة المهمة، والتي يعني مشهدها، حتى مع تسوية الصفقة بعد التطور الكبير، في علاقة أنقرة بأوروبا وأميركا، على هامش قضية الشهيد جمال خاشقجي، فهل الحكم السعودي سيعيد
هل لديه مساحة لإيقاف هذا التصدّع ومواجهته البناء الديني والاجتماعي والحقوقي والفكري في البلد، ويعلن جمع الناس على تدوين دستور تأسيسي، بعد إجراءات فورية للإصلاح، وانسحابٍ من الحرب المجنونة على كل إسلاميي العالم التي جرّته إليها أبو ظبي.
هذا هو البعد الثالث الذي يكتنفني، وقبل أن أكتب هذا المقال بسنوات، ومنذ 2003، وعبر جهود الحركة الوطنية في الأحساء، ومشاركاتي السياسية مع أبناء أقاليم المملكة قبل اعتزال العمل السياسي، قدمت للنظام رؤى وأفكاراً تسمح بتطوير الدولة، وامتداد عمرها. ولكن في إطار إصلاحي ملموس، يحترم حق الفرد وتعدد ثقافته وكرامته وخبزه، لكنها زهدت لديهم وتاهت في الأدراج. فهل هناك مساحة دقائق يفكر فيها ولي العهد السعودي بغير ما قدّم له فريق أبو ظبي المخابراتي، وبرؤية تسترشد بالمخلصين الذين سجن نخبتهم. حينها وقبل أي حديث، سيتبيّن له أن القوة المنقذة ليست في يد أميركا، وأن مساحة التفاهم مع الأتراك الذين لاعنهم فريقه بكل لغةٍ مجنونةٍ أقرب إليه من صفقات ترامب، عبر المصالح التي تحرّكهم أيضاً، وأن الدوحة التي حاصرها أقرب إليه من أبو ظبي التي لعبت بمصير دولته، فهل سيفعل؟
ستبقى مصالح الشعب، وحقوقه السياسية والاقتصادية الشاملة هي المدار، وحقه في القصاص من قتلة جمال قائماً كلما طلع النهار.
مقالات أخرى
14 مايو 2024
30 ابريل 2024
23 ابريل 2024