27 أكتوبر 2024
المرشّح المتهم من "البط المكبّل"
تأسست صحيفة "البط المكبّل" الفرنسية الهزلية سنة 1915، وكان الهدف الرئيسي لها تجاوز الرقابة المفروضة إبّان الحرب العالمية الأولى على الصحافة والنشر. ومن خلال الفكاهة والسخرية، سعى مؤسسوها إلى تجاوز مقص الرقيب العسكري حينها. وقد استهدفوا أساساً إدانة الحرب والرقابة والسياسيين والمنتفعين ورجال الدين والسلطة وحكم الإعدام. كما استهدفوا كبار الصحافيين والمحرّرين الذين كانوا "يقاتلون بدماء سواهم"، كما ذكروا، مشددين على أهمية الإعلام وخطورته في تأديته واجبه المهني، وفي تجاوزاته أيضاً. وكان التهكم سبيلهم إلى تحقيق ما يصبون إليه مع تعرّضهم مراراً، في الفترة الأولى، لمقص الرقيب العسكري، ولو لم يتطرّقوا إلى أي شأنٍ عسكري من قريب أو من بعيد.
كان يصحّ وصفهم أيضا، في بدايتهم، بالتيار الفوضوي المتخلّص من كل أوهام السياسيين والدينيين والعسكريين والمؤسساتيين، أو التحرّري الذي يذهب بحرية التعبير إلى أقصاها، مستخدما النكتة والاستهزاء المبني على معلوماتٍ دقيقة وتحليلات موثّقة. ولتفادي الرقابة العسكرية حينذاك، كانت الصحيفة تلجأ كثيراً إلى الحيلة، بأن تورد خبراً بصيغة يتضّح منها أنها ترمي إلى فهم عكسها تماما. كما أن المحرّر قد يستخدم عباراتٍ مُعدّلة، لكي لا يتمكّن الرقيب، ولو فهم القصد، من أن يجد حجة قانونية لممارسة دوره.
احتفلت هذه الصحيفة في العام المنصرم بعيدها المئوي، وهي استطاعت الاستمرار والتطور والتحرّر أكثر فأكثر مع مر الزمان. وهي متواضعة الإخراج لتقليص الكلفة، لاعتمادها على ما يرد من مشتركيها ومن قرّائها واستبعادها أية سياسة إعلانية، وذلك لقناعة لدى القائمين عليها بأن الإعلان يمكن أن يستخدم في وقتٍ من الأوقات، وسيلة ضغط أو ابتزاز. لذا، فهي تعتبر الصحيفة الفرنسية الوحيدة التي لا تحتوي على إعلانات، كما أنها توزع وسطياً ما يعادل أقل من نصف مليون نسخة أسبوعية تقريباً، محافظةً على صدورها في كل يوم أربعاء منذ التأسيس، وهي تنشر حساباتها التفصيلية سنوياً.
ومن استعراض مسار الصحيفة، يتبين أنها أسّست مدرسة في السخرية "البنّاءة"، إن جاز
الفرنسيون الباحثون عن مصادر أخبار "جدية"، ولو بطريقة السخرية، ينتظرونها أسبوعياً بتلهّف. وقد يزداد هذا الشوق والترقب في فترة الانتخابات والأزمات السياسية. ومن أفضال هذه الصحيفة أنها فضحت، سنة 1979، إهداء إمبراطور أفريقيا الوسطى، بوكاسا، قطعة من الألماس إلى الرئيس الفرنسي، فاليري جيسكار ديستان. ونشرت وثائق تدين أكثر من وزير ومسؤول إداري كبير، وتشير إلى فسادهم أو إهمالهم. لم يشعر القارئ بأنها حابت أحداً ذات اليمين وذات اليسار، فعلى الرغم من ميل مؤسسيها ومحرّريها إلى اليسار، لم يلعب هذا الانتماء دوراً في إقصاء الأخبار الفاضحة لتصرفات رجال اليسار، إن وجدت في أثناء مسكهم زمام الحكم. وبالتالي، فهي لا تقصّر في فضح ما يمكن توثيقه من تجاوزات لرجال اليمين.
آخر ضحاياها هو المرشح الرئاسي عن حزب الجمهوريين، فرنسوا فيون. صديق فلاديمير
كان الرّد اليميني متناقضاً ومتوتراً، واعتبر السيد فيون أن ما تنشره الصحيفة مخطط له من اليسار لزعزعة حملته، مصرّاً على متابعتها. يبقى تفصيل أساسي لم ينتبه إليه مريدوه، هو أن القانون الفرنسي، كما في كل الدول الديمقراطية، يمنح حريةً مسؤولة وقصوى للإعلام. وبالتالي، يحق لمن توجه له تهمة بهذا المستوى، وهو متأكد من عدم وجود أي دليل على ما ورد في الاتهامات، أن يُقاضي الوسيلة بتهمة "القدح والذم". هذا ما لم يفعله المرشح اليميني حتى اليوم. ومما يتوفر من وثائق لدى الصحيفة، والتي تعمد إلى نشرها بشكل متتالٍ، بحيث أصبح صدورها يوم الأربعاء هو الأساس تقريباً في المسار الانتخابي الرئاسي القائم، يبدو أن المرشح لن يقاضيها، حتى لا يسرع سقوطه في هوة الفشل.
تجربة ممتعة الملاحظة، خصوصاً لمن يعيشون في ظل حكوماتٍ قمعيةٍ، يمتلك قادتها وزوجاتهم وأبناؤهم الحجر والبشر، ويكادون يمتلكون أيضاً الموت.