19 أكتوبر 2019
المراهنة على الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي
تجري الرياح الأوروبية بما لا تشتهي السفن البريطانية، فقد استعصى على بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. والمثير للانتباه أن النخبة البريطانية الحاكمة التي ساهمت في بناء الخطاب الشعبوي المعادي لأوروبا وتغذيته، ونظمت استفتاء الخروج من الاتحاد، وتنفذ اليوم إجراءات ذلك، لم تحضّر لا نفسها ولا البلاد لتبعات هذا القرار. ما يوحي بنوع من الاستخفاف وعدم التحضير والتسرّع بشأن قرار إستراتيجي يخص مصير البلاد.
إنها محنة الخروج الصعب الذي كانت التيارات الشعبوية ولا زالت ترفض الإقرار به. ولسان حالها: نخرج من أوروبا وليحدث ما يحدث. المشكلة طبعاً أن تحميل الآخر (الاتحاد الأوروبي) تبعات الأمور ليس فقط محاولة يائسة لتبرئة الذات، بل محاولة فاشلة لتجاوز الواقع، فلا يمكن لأي تلاعب سياسي، مهما كان، أن يتحايل طويلاً على الواقع. ثم بمن سيتعذّر الشعبويون في بريطانيا بعد مغادرة بلادهم نهائياً الاتحاد؟
أراد الشعبويون العبث بأوروبا، وإذا بهم يعبثون، في نهاية الأمر، ببلادهم، فهم لا يضرون فقط بمصالحها، بل أيضاً بخريطتها، وبالتالي بسيادتها، فاتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سيقود، في نهاية المطاف، إلى وضع حواجز حدودية جمركية داخل بريطانيا، بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا الجنوبية. كما أن لندن لن تبقى العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي، فالمؤسسات المالية والمصرفية البريطانية مضطرة لنقل تعاملاتها إلى باريس وفرانكفورت وميلانو وغيرها، حتى تواصل نشاطاتها في الاتحاد الأوروبي. وحتى المواطن البريطاني العادي يتوجس من تداعيات خروج بلاده من الاتحاد، وشرع في تخزين بعض المواد التي يعتبرها استراتيجية، مثل الأدوية، تحسّباً ليس فقط لارتفاع أسعارها، بل لانقطاعها في السوق، لأن بريطانيا تستورد معظم ما تستهلكه من الأدوية من دول الاتحاد الأوروبي.
هكذا يحمي الشعبويون بلادهم! في السياسة كما في الحياة اليومية، كلما غاب العقل واستفحل
الهوى كانت الكارثة. مأساة الشعب البريطاني، بغض النظر من مواقفه وقناعاته حيال الاتحاد الأوروبي، أنه ضحية التيارات المسوّقة الحلول الجاهزة والمتقنة لبناء العدو بناء اجتماعياً.
هناك تخوّف بريطاني من عدم التوصل إلى اتفاق في الأسابيع القليلة المقبلة بسبب الاختلاف مع الاتحاد الأوروبي: تخوّف من شلل شبه كامل لحركة تنقل البضائع والأشخاص بين دول الاتحاد وبريطانيا. تخوف سيجعلها، في نهاية المطاف، توقع على اتفاقٍ يقيها نوعاً من الحظر العملي، بسبب إعادة العمل بالحدود الجمركية بين الطرفين.
عموماً الخلاف الجوهري، في المفاوضات، بين الطرفين، أن بريطانيا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، مع الاحتفاظ بمزايا السوق الأوروبية الموحدة وبالحريات الأربع التي يقوم عليها الاتحاد: حرية تنقل البضائع والاستثمارات ورؤوس الأموال والأشخاص، أي الاستفادة من الاتحاد من دون تحمل تبعات العضوية فيه. أما الاتحاد الأوروبي فيقول إن هذه السوق الموحدة مرتبطة بالعضوية الكاملة، ومن ثم من الضروري إعادة المراقبة الشاملة على الحدود.. هكذا يتحقق أمل الشعبويين البريطانيين، ولكن بأي ثمن؟ فهم لطالما طالبوا بإعادة بريطانيا تحكّمها في حدودها. وهذا ما سيحدث، لكن ذلك سيكلفها غالياً، ليس من حيث المال والاقتصاد فحسب، بل من حيث الخريطة الجغرافية للمملكة، مع بسط الحدود بين الأيرلندتين الشمالية والجنوبية.
المراهنة على كيفيات الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي إستراتيجية بالنسبة لطرفين متناقضين في أوروبا. الطرف الشعبوي، بمختلف أطيافه (في بريطانيا وخارجها)، الذي رحب بهذا الانسحاب، وينتظر بل ويتمنى أن يمر بسلام، حتى تتخذ القوى الشعبوبية في الدول الأخرى حجةً للمطالبة بمغادرة الاتحاد الأوروبي، وإن كان الأمر غير هين، فاليمين المتطرّف الفرنسي تراجع عن القول بالخروج من منطقة اليورو في الانتخابات الرئاسية قبل عامين في بلاده، بعدما أوضحت استطلاعات الرأي العام تمسّك الأغلبية الساحقة من الفرنسيين بالعملة الأوروبية الموحدة. أما الطرف الآخر، والمتكوّن من الحكومات الأوروبية المعتدلة والتيارات الليبرالية وبعض التيارات اليسارية، لاسيما الخضر، فهو ينتظر ويتمنى أيضاً أن يكون خروج بريطانياً صعباً ومكلفاً لإقناع الدول الأخرى بعدم التفريط في الاتحاد الأوروبي، وحتى ينقلب الشعب البريطاني الذي تحلم قطاعات واسعة منه بإعادة الاستفتاء، على التيارات الشعبوية التي سوقت للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومعاقبتها انتخابياً.
ومن ثم، ما ستنجم عنه المفاوضات النهائية، قبل نهاية العام الجاري، لا يخص فقط قضية انسحاب بلدٍ من الاتحاد الأوروبي، وإنما أيضاً المنحى السياسي الذي ستأخذه التيارات الشعبوية والمتطرّفة الأوروبية، إما نحو مزيدٍ من المد أو نحو الانحسار. إنها مراهنة إستراتيجية لطرفين متناقضين تماماً.
إنها محنة الخروج الصعب الذي كانت التيارات الشعبوية ولا زالت ترفض الإقرار به. ولسان حالها: نخرج من أوروبا وليحدث ما يحدث. المشكلة طبعاً أن تحميل الآخر (الاتحاد الأوروبي) تبعات الأمور ليس فقط محاولة يائسة لتبرئة الذات، بل محاولة فاشلة لتجاوز الواقع، فلا يمكن لأي تلاعب سياسي، مهما كان، أن يتحايل طويلاً على الواقع. ثم بمن سيتعذّر الشعبويون في بريطانيا بعد مغادرة بلادهم نهائياً الاتحاد؟
أراد الشعبويون العبث بأوروبا، وإذا بهم يعبثون، في نهاية الأمر، ببلادهم، فهم لا يضرون فقط بمصالحها، بل أيضاً بخريطتها، وبالتالي بسيادتها، فاتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي سيقود، في نهاية المطاف، إلى وضع حواجز حدودية جمركية داخل بريطانيا، بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا الجنوبية. كما أن لندن لن تبقى العاصمة المالية للاتحاد الأوروبي، فالمؤسسات المالية والمصرفية البريطانية مضطرة لنقل تعاملاتها إلى باريس وفرانكفورت وميلانو وغيرها، حتى تواصل نشاطاتها في الاتحاد الأوروبي. وحتى المواطن البريطاني العادي يتوجس من تداعيات خروج بلاده من الاتحاد، وشرع في تخزين بعض المواد التي يعتبرها استراتيجية، مثل الأدوية، تحسّباً ليس فقط لارتفاع أسعارها، بل لانقطاعها في السوق، لأن بريطانيا تستورد معظم ما تستهلكه من الأدوية من دول الاتحاد الأوروبي.
هكذا يحمي الشعبويون بلادهم! في السياسة كما في الحياة اليومية، كلما غاب العقل واستفحل
هناك تخوّف بريطاني من عدم التوصل إلى اتفاق في الأسابيع القليلة المقبلة بسبب الاختلاف مع الاتحاد الأوروبي: تخوّف من شلل شبه كامل لحركة تنقل البضائع والأشخاص بين دول الاتحاد وبريطانيا. تخوف سيجعلها، في نهاية المطاف، توقع على اتفاقٍ يقيها نوعاً من الحظر العملي، بسبب إعادة العمل بالحدود الجمركية بين الطرفين.
عموماً الخلاف الجوهري، في المفاوضات، بين الطرفين، أن بريطانيا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، مع الاحتفاظ بمزايا السوق الأوروبية الموحدة وبالحريات الأربع التي يقوم عليها الاتحاد: حرية تنقل البضائع والاستثمارات ورؤوس الأموال والأشخاص، أي الاستفادة من الاتحاد من دون تحمل تبعات العضوية فيه. أما الاتحاد الأوروبي فيقول إن هذه السوق الموحدة مرتبطة بالعضوية الكاملة، ومن ثم من الضروري إعادة المراقبة الشاملة على الحدود.. هكذا يتحقق أمل الشعبويين البريطانيين، ولكن بأي ثمن؟ فهم لطالما طالبوا بإعادة بريطانيا تحكّمها في حدودها. وهذا ما سيحدث، لكن ذلك سيكلفها غالياً، ليس من حيث المال والاقتصاد فحسب، بل من حيث الخريطة الجغرافية للمملكة، مع بسط الحدود بين الأيرلندتين الشمالية والجنوبية.
المراهنة على كيفيات الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي إستراتيجية بالنسبة لطرفين متناقضين في أوروبا. الطرف الشعبوي، بمختلف أطيافه (في بريطانيا وخارجها)، الذي رحب بهذا الانسحاب، وينتظر بل ويتمنى أن يمر بسلام، حتى تتخذ القوى الشعبوبية في الدول الأخرى حجةً للمطالبة بمغادرة الاتحاد الأوروبي، وإن كان الأمر غير هين، فاليمين المتطرّف الفرنسي تراجع عن القول بالخروج من منطقة اليورو في الانتخابات الرئاسية قبل عامين في بلاده، بعدما أوضحت استطلاعات الرأي العام تمسّك الأغلبية الساحقة من الفرنسيين بالعملة الأوروبية الموحدة. أما الطرف الآخر، والمتكوّن من الحكومات الأوروبية المعتدلة والتيارات الليبرالية وبعض التيارات اليسارية، لاسيما الخضر، فهو ينتظر ويتمنى أيضاً أن يكون خروج بريطانياً صعباً ومكلفاً لإقناع الدول الأخرى بعدم التفريط في الاتحاد الأوروبي، وحتى ينقلب الشعب البريطاني الذي تحلم قطاعات واسعة منه بإعادة الاستفتاء، على التيارات الشعبوية التي سوقت للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومعاقبتها انتخابياً.
ومن ثم، ما ستنجم عنه المفاوضات النهائية، قبل نهاية العام الجاري، لا يخص فقط قضية انسحاب بلدٍ من الاتحاد الأوروبي، وإنما أيضاً المنحى السياسي الذي ستأخذه التيارات الشعبوية والمتطرّفة الأوروبية، إما نحو مزيدٍ من المد أو نحو الانحسار. إنها مراهنة إستراتيجية لطرفين متناقضين تماماً.