ذهبتَ إلى الحمام بجفنين مغلقين وفمك مفتوح كسمكة نافقة. قضيتَ حاجتك وحلقتَ ذقنك ونظفتَ أسنانك واغتسلتَ بالصابون الذي يُسببُ لي الغثيان، ثم خرجتَ مندفعاً كسفينة جنحت إلى الشاطئ. التفتَ إلى الساعة الذليلة الأمَة التي ارتضت أن تقضي عمرها كله مغلولة إلى الجدار فوجدتها تشير إلى الخامسة والنصف. ارتديتَ ملابسك على عجل ناسياً تسريح شعرك، وخرجتَ تخبُ تاركاً القطة المتشردة من دون حليب. صعدتَ حافلة تدرج على أربع كبهيمة ولها خوار لا يشبه خوار العجول "تيت..تيت..تيت". وطوال الطريق ظلت تطلق من دبرها ريحاً يندى لها الجبين وكأنها تعاني من تلبك معوي.
الراكب الذي جلس بجوارك أدخل يده في جيبك، أمسكتها وأعدتها بفظاظة فوق فخذه وأنت تنظر إلى وجهه زاوياً حاجبيك. فكرتُ أن أسألك لماذا لا تعطيه قليلاً من النقود؟ لكن مهلاً، هذا ليس لصاً محتاجاً يبتغي تدبير قوت يومه، إنه زميلك في العمل، وكما فهمتُ منه فما غايته سوى تدفئة أنامله. يوماً بعد يوم يتكشّف لي أنك رجل قليل الخير، لا تُسدي معروفاً لأحد!!.
اقرأ أيضًا: زهرة النبي شعيب
تُرهفُ سمعك وتتلصص مُخَاوصَة محاولاً التقاط مجرى الحديث الذي تجريه النسوة في المقاعد الخلفية، لكن حديثهن ليس موحداً، تتداخل أصواتهن فلا تصلك سوى ضجة غير مفهومة. فجأة تفرقع ضحكة "أشجان" فتشعر بوجع في قلبك. وخزة ألم تسري بين ضلوعك، وتتعجب من نفسك، لماذا يؤلمك الحب إلى هذا الحد؟ كنتَ تحسبُ أن آلام العشاق نفسية فقط، محض خيال لا يدبغ الجلد، تباريح تمس الأحاسيس ولا تترك أثراً في الجسد، ولكن ها أنت ذا تتعذب وتطحن أضراسك وكأن شوكة انغرزت في لحم فؤادك.
وصلتَ إلى جحر "السيد بطاطس" سيئ التهوية، وناولك حافظة الدوام كهل له هيئة سلحفاة، بطيء الحركات، أصلع الهامة، عمره يربو على الألف عام، وله عينان ميتتان. خربشتَ على الورقة توقيعاً هزلياً يشبه حماراً يأتي أنثاه، وصعدتَ إلى قسم الحسابات بخطوات مضطربة وبصرك لا يُميّز الدرجات، فكدتَ تقعُ وتبعجُ أنفك، لأنك لست هنا إلا ببدنك، وأما حِسُّكَ ففي مكان آخر، في قسم آلات فحص البطاطس الذي تعمل فيه تلك الحسناء ذات الوجه المستدير.
زميلك في المكتب "لطف" كان مشغولاً بتدريم أظلافه، وزميلك الآخر "رضي" الذي أتلفت الملوحة شواربه كان يتموج كفرس البحر، ويقرأ بصوت نشاز من محارة مفتوحة بين يديه. وأما أنت فقمت بفتح جهاز الحاسوب المكتبي العتيق، ورحتَ تُراجعُ كشوفات رواتب الموظفين، وتلبّثتَ ملياً عند خانة عاملة يعنيك أمرها.
اقرأ أيضًا: البيضة الزرقاء
أتى الساعي ورمى في وجهك قطعة خبز يابسة مشقوقة من بطنها وملطخة بمعجون بشع المذاق تسمونه "الفاصوليا"، ووضع تحت حلقك فنجان شاي ساخن وهو يتمنى في سره لو يدلقه تحت سرتك. إنه يكرهك، وسأخبرك عن السبب في ما بعد.
قمتَ بطبع نسخة من كشف المرتبات، ثم أضاف عليها رجال آخرون توقيعاتهم الهلامية التي لا يدركون أنها تشبه الغائط الذي يتبرزونه.
قرب الظهر وصلت الدفعة الأولى من العاملات في قسم آلات غسيل وتنظيف البطاطس لاستلام رواتبهن، تلتهن العاملات في قسم التقشير. وأخيراً وصلت العاملات في قسم آلات الفحص، ولمحتَ "أشجان" سافرة الوجه، تضحك مع رفيقاتها، وكلهن مبتهجات مرحات، وجيوبهن الخاوية تتلهف للدفء بالأوراق التي تقيأتها ملايين الجيوب قبلهن.
حين جاء دورها للتوقيع أمام اسمها، اقتربتْ منك ولم تعد تفصل بينكما سوى سنتيمترات، إنها أقرب مسافة يجود بها عليك القدر حتى الآن. فكرتَ في نفسك أنها تشبه مذنباً يقترب من مدار الأرض للحظات قصيرة ثم يتابع مساره في الفضاء. أخذتَ نفساً عميقاً وشممتَ عبيرها واحتجزتَ عطرها في رئتيك. وهي منحنية والقلم بيدها يجري راسماً مجرة إهليلجية، نطحتها زميلة نافدة الصبر، فانجذب مرفق "أشجان" إلى صدرك. لقد صدمتك، وقد شعرتَ بها كنيزكٍ هوى من السماء، وأنت تلقيتها أيها الطين الرهيف بغتة، في قلبك دون سواه، فشعرتَ بمزيج لا مثيل له من الألم والسعادة، مزيج أشد خطورة من كل الأخطار، فلم تتأوه ولم تصرخ، ولكن ابتسامة غبطة ممتنة واتتك وأنت تغادر بأريحية إلى العالم الذي لا يعود منه أحد.
وجدي الأهدل (كاتب يمني)