المرأة الزعيمة بين الحجاب السياسي والتاريخي

10 يوليو 2016
(تونس: دار الجنوب، 2016)
+ الخط -

تقول فاطمة المرنيسي في فصل من كتابها "سلطانات منسيات"، عنونته بـ "مقاييس الحكم في الإسلام" "والحق أن سلطة الحكام تتفاوت حسب درجة امتلاكهم السلطة العسكرية، بيد أن هناك شيئاً يظل مؤكداً، وهو أن من تقام خطبة الجمعة باسمه هو الذي يتم الاعتراف به رسمياً كقائد للدولة".

غير أن هذا الربط بين العسكري والديني لم يفرض في شتى مراحل التاريخ السياسي الإسلامي لاسيما إذا تعلق الأمر بممارسة النساء للسلطة، فإما هن زعيمات عسكريات لا يذكرهن التاريخ بغياب ذكرهن في الخطب الدينية، وإما هن ملكات وأمهات أو زوجات خلفاء ذُكرن في التاريخ وفي الخطب الدينية على الرغم من غيابهن في ساحات الحرب. فالتوتر الذي يميز علاقة المرأة بالديني والسياسي والتاريخي يشتد كلما اقتربنا من المجال العسكري ويتقلص كلما توارت خلف حجاب الطابع المؤسساتي لفضاءات المسجد والقصر والساحات الحربية. وينعكس ذلك عبر الخطاب التاريخي العربي الإسلامي الذي تعددت فيه استراتيجيات إعادة تركيب وتنظيم وتهذيب الواقع المادي لتمحيض فعل الزعامة للذكور وتقديم الحجة على قطعية فشل الأنثى سياسياً طبقاً لقول الرسول: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".. ونظراً إلى خطورة فعل التمثل التاريخي في تشكيل صورة المرأة الزعيمة الفاشلة التي يتبناها الوعي الجمعي، فإن الانكباب على البحث في متون الخطاب التاريخي وأدواته، صار مجالاً خصباً للكشف عن النواة المركزية المؤسسة للتمثلات الاجتماعية التي يقوم عليها الوعي الجمعي الراهن ثم نقده.

وفي هذا السياق تندرج قراءتنا لكتاب صدر، أخيراً، للباحثة التونسية، ناجية الوريمي، أستاذة الحضارة العربية الإسلامية المهتمة بدراسة التراث وقضايا التحديث، بعنوان "زعامة المرأة في الإسلام المبكر بين الخطاب العالِم والخطاب الشعبي" (وقد نشر هذا الكتاب في نطاق سلسلة "معالم الحداثة" عن دار الجنوب بتونس)، واخترنا أن ننزّل هذه القراءة في إطار مقارنته بالمصدر المذكور أعلاه، والذي صدر منذ أكثر من عقدين للباحثة المغربية فاطمة المرنيسي.

ويعود اختيارنا لهذا الكتاب إلى تعالق الإشكاليات الرئيسية وحقول البحث واتفاق أهم الاستنتاجات، على الرغم من تباين الخلفيات التي تخص المؤلفتين. فصاحبة السلطانات لم تشذ عن أهداف الدراسات النسوية التي تروم فضح كل صيغ وأدوات ترسيخ الثقافة الذكورية المهيمنة ولم تتحرج في دعم خطابها بومضات من السيرة الذاتية على غرار جل النسويات، بينما أكدت الأستاذة الوريمي في إطار لقاء تعلق بتقديم كتابها أنها تنطلق من تفكيك الخطاب العالِم وبالأخص الخطاب التاريخي المؤسس للبداهات المشّكلة لـ"المعرفة الأخلاقية"، وقد اعتمدت في ذلك على هذا المفهوم، كما قدمه هابرماس بما هو خلاصة الاعتبار من الأحداث "بعد تصويرها تصويراً محدداً يبرز فضائل ما كان ونقائصه في الآن نفسه حتى يأتي ما ينبغي أن يكون". وهذه البداهات لم يعد ممكناً للمجتمعات العربية أن تتمثلها حاليا بنفس المعايير والأشكال لاسيما في مستوى تقاطع المجال السياسي بالبعد الجنسوي.

ففي هذا المستوى تتجلى استمرارية فعل الإقصاء والتمييز الجنسوي مما يخلق ازدواجية في المشهد السياسي العربي العام المشيد بمبادئ المشاركة الفاعلة والانتماء الإيجابي لكل أفراد المجتمع من جهة، والزاخر بعقبات تحقق العدل والمساواة النوعية من جهة أخرى. وتترجّع عبر هذا الرأي صورة "المدينة ـ الديمقراطية" التي خلُصت إليها المرنيسي وهي تشرح هذا التناقض الذي يخص جل الدول الإسلامية بين مشهد خليفي يستمد الشرعية السياسية من السماء ويصم العامة بتصنيفها ضمن فواعل الفتنة والعصيان والمرأة هي العنصر الأشد فتنة من ناحية، والمشهد البرلماني الذي يعترف بسيادة "الشعب المواطن" من ناحية أخرى. ولعل الوضع السياسي المتذبذب للنساء هو الأقدر على فضح هذه التناقضات إذ لم تنجح رقة وشفافية الأحجبة المضروبة على هذه الفئة في التعتيم على واقع تحييدهن عن أدوار القيادة والحذر من استغلالهن لحقوقهن التي تقرها ثقافة المواطنة.

ولا تقع عمليات الإقصاء ميدانياً فحسب مثلما أوضحت المرنيسي، بل هي ماثلة، أيضاً، بين دفات التاريخ الرسمي أو الخطاب العالِم الذي شهد استراتيجيات مختلفة في الوصم الأنثوي، باعتماد الحذف والإضافة والسكوت والتعتيم مثلما بيّنت الوريمي في تفكيكها للروايات المتصلة ببعض النساء العربيات وغيرهن ممن اشتهرن ببروزهن عسكرياً على غرار سجاح وعائشة والكاهنة البربرية.. وبين مداري البحث (السلطانات، الزعيمات العسكريات) تطرح الكاتبتان تلك الأخبار موشومة بالثغرات والشروخ في دعوة لقراءة ما لم يذكر والتبصر بقلم الذَكر في ما ذُكر. على أن تركيز الوريمي على فترة الإسلام المبكر والفتوحات الأولى واهتمام المرنيسي بتاريخ الحكم الإسلامي منذ العهد الأموي إلى حدود الإمبراطورية العثمانية مكننا من استجلاء ملامح تاريخية الزعامة النسائية إذ كانت قليلة وسريعة الانقضاء مع الإسلام التأسيسي خاضعة لهندسة الأدوار النوعية، وكان المؤرخون الأوائل يتقنون التصرف في توثيق تلك الأخبار حتى تصنّف ضمن الشاذ في التاريخ أو تقدم على أساس البدعة والفتنة والخطأ الذي منه تستخلص الوظيفة الاعتبارية.. ثم إنها شهدت التطور نفسه الذي عرفته الزعامات الذكورية الإسلامية بالانتقال من الظهور المباشر والتفاعلي مع العامة والأتباع والأعداء في ساحات الوغى زمن الفتوحات إلى التعامل عبر حجاب القصر والحصول على ألقاب متنوعة مثل السلطانة والحرة والملكة مع استثناء لقب الخليفة.

وقد تجسد هذا التطور في شكل تضارب بين الكتابين إذ أقرت المرنيسي أن المرأة المسلمة لم تنجح في القيادة العسكرية أو الدينية بقدر نجاحها في تدبير شؤون الدولة سواء جالسة على عرشها أو مستلقية في خدرها، وأن مصنفات التاريخ القديمة تقر بذلك. بينما تؤكد الوريمي أن المرأة في الإسلام المبكر كانت قائدة وزعيمة واستندت، في ذلك، إلى الخطاب الشعبي متجسداً في كتاب "فتوح الواقدي" على الرغم من تعدد الأصوات وانحسار درجة الثقة في هذا المصدر الذي شهد انفجاراً لنواته الرئيسية، ولكنه كان كفيلاً لدى الكاتبة بفضح عملية اشتغال الخطابات التاريخية والفقهية والسياسية على ترسيخ المبررات الثقافية للمراتبية النوعية في المجتمعات العربية. وقد يكون توفر الخطاب الشعبي والمسرودات الشفوية على أخبار الزعيمات المحاربات شكلاً من أشكال المقاومة لعملية الإبعاد التي يتعرض لها العامة والنساء في المجال السياسي مثلما أكدت المرنيسي في بداية كتابها قائلة: "إن العامة والنساء هم المبعدون بالضرورة عن ساحة الخلافة السياسية وسنرى أن النساء لسن وحدهن المحجبات وأن العامة هي الأخرى مفصولة عن الخلافة بواسطة حجاب".

لكن لقاء الباحثتين في عملية نقد التاريخ الرسمي لم يكن بناء على اتفاق كلي، باعتبار أن الوريمي سلطت تفكيكها لاستراتيجيات التلاعب على النصوص التاريخية البكر للطبري والمسعودي وابن خلدون. بينما أكدت المرنيسي على خطورة ما أجراه المؤرخون المعاصرون عرباً ومستشرقين من تعديل وتشويه وتعتيم على تاريخ القيادات النسائية، وذلك ما توفقت إليه بمقارعة تلك النصوص بحجج من أمهات المتون التاريخية. ومن مظاهر التقاطع التي تجلى فيها الاختلاف بين الكاتبتين حكمهما على الطبري مثلاً: إذ تقر الباحثة التونسية بحضور "الطبري الفقيه" في جل الأخبار المتعلقة بالنساء الزعيمات: "ولنا في نماذج نصية عديدة ما يثبت هذا الإقصاء الاصطلاحي الذي قام به المؤرخ العالم. فهي مبنية على جهاز اصطلاحي يعكس حذراً من الاعتراف بالواقع" (زعامة المرأة ص96) ، بينما تشيد المرنيسي به وتؤكد أنه "يجب أن نعترف بموضوعية المؤرخين الكبار كالطبري حين يتعلق الأمر بالنساء موضوعية نادراً ما نجدها لدى المحدثين" (سلطانات منسيات ص64)، وقد يعزى هذا التناقض إلى تباين المعيار الطبقي للفئات النسائية المدروسة، فبين زعيمات الوريمي اللواتي كان جلهن من السيدات الحرائر مثل زوجات الرسول والصحابة وأخواتهن وسيدات قبائل وكاهنات... البارزات بسيوفهن المسلولة في المعارك الكبرى وما تكتنفه هذه الصورة من استيلاب أحد رموز سلطة الفحولة وإمكانات الخصاء من جهة. وجواري ومملوكات ومحظيات المرنيسي واجتراؤهن على الإمساك بمقاليد الحكم سواء من وراء حجاب أو من على العروش من جهة أخرى يتشكل هذا الاختلاف في تقييم النص التاريخي القديم .

فالحجاب التاريخي كان أسمك مع زعيمات المعارك لما في ظهورهن من تهديد باستيلاب دور البطولة واكتساب صفات الفتوة وبالتالي المس من امتيازات صورة رجال الأمة الإسلامية، بينما لا يغير صعود بعض نساء الحريم إلى مراتب الحكم الخطورة ذاتها لأنهن يبقين مجرد استثناءات وهزات عابرة في تاريخ السلطة الإسلامية علاوة على أنهن لم يتخلصن من المحددات الأخلاقية المتمثلة في المكر والخداع والإغواء لتحقيق أطماعهن السياسية، وهو ما جزمت به المرنيسي قائلة: "مارست النساء الاغتيال السياسي حين تدعو إليه الحاجة معتمدات على وسائل أكثر قساوة كالخنق أو دس السم عوض القتل بالسيف" (سلطانات منسيات ص63).

ولئن بدت لنا الوريمي أدق في مستوى تفكيكها للخطاب التاريخي القديم وبيان أوالياته الميزوجينية فقد اتخذت المرنيسي من هذا التاريخ دعامة تفضح بها الأحجبة الكثيفة التي تضرب حول النساء المسلمات حالياً، معتبرة أن هذا المنطلق قد يسمح بالكشف عن تاريخ "مخفي لحد الآن هو الآخر وراء حجاب وكامن في اللامرئي" (سلطانات منسيات، ص129).

وما بين التفكيك المؤدي إلى فضح الانحيازات الذكورية في الخطاب التاريخي والبحث في شذرات متفرقة عن سير بعض السلطانات والملكات، تتجلى ضرورة الاهتمام بهذه المعرفة التي ما انفكت عن التأثير في الفكر السياسي الإسلامي مؤبدة حكم تهميش النساء ومنعهن من أدوار الحكم والتسيير، وذلك من أجل استثماره "في اتجاه ما يناسب العصر وما يقتضيه الانتماء الإيجابي إليه وفي اتجاه الإقرار العادل لما يحق لكل ذات من أن تنتمي إيجابياً إلى المجموعة" (زعامة المرأة، ص196)، كما ختمت الوريمي.

(باحثة تونسية)

المساهمون