أعادت المذكرات السياسية، التي صدرت أمس الخميس، للزعيم الاشتراكي، رئيس "حكومة التناوب" في المغرب، عبد الرحمن اليوسفي، والتي نشر موقع وصحيفة "العربي الجديد" مقتطفات منها في الأيام الثلاثة الماضية، فتح موضوع كتابة زعماء الأحزاب وقادة العمل السياسي في المملكة لمذكرات يروون فيها مشاهداتهم وتعليقاتهم على أحداث بارزة في تاريخ المغرب المستقل.
وأثارت مذكرات اليوسفي، التي اختير لها عنوان "أحاديث في ما جرى"، وجمعها رفيقه مبارك بودرقة، اهتمام الرأي العام السياسي في المملكة، بالنظر إلى طبيعة المذكرات التي جمعت بين السيرة الذاتية وشهادات "شيخ الاشتراكيين المغاربة" على أحداث سياسية مهمة، وشخصيات التقاها أو عمل معها. ولم تخرج مذكرات اليوسفي إلى الوجود إلا بعد محاولات مضنية من بودرقة، الذي احتفل بإصدار هذه الشهادات الموثقة، بقوله "هو حلم راوده الأمل بتحقيقه قرابة عقدين من الزمن"، باعتبار اقتصاد الرجل في الكلام والحديث إلى حد وصفه من طرف الزعيم الجزائري، الأخضر الإبراهيمي، بأنه "شخص يلوي لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم". وتتسم كتابة المذكرات السياسية من لدن زعماء وقادة العمل السياسي والحزبي في المغرب بالندرة والقلة. فعدا مذكرات وشهادات دونها زعماء ومعتقلون سياسيون، حكوا تجاربهم الشخصية، فإن هذا المجال ظل غير مطروق بشكل كبير في المغرب، ما يطرح العديد من الأسئلة حول خلفيات وتداعيات ندرة تسجيل زعماء وقياديين لشهاداتهم السياسية على أحداث تاريخية حاسمة عاصروها.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة مراكش، الدكتور عبد الرحيم العلام، إن "ظاهرة إحجام رجالات وزعماء السياسة عن نشر مذكراتهم لا تقتصر على ساسة المغرب فحسب، وإنما تكاد تكون ظاهرة عامة. بل يمكن تسجيل أن الساسة المغاربة يتفوقون على نظرائهم العرب". ويلاحظ العلام، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الخزانة المغربية تتوفر على قدر لا بأس به من السير الذاتية التي خلفها العديد من رجالات السياسة، من قبيل مذكرات عبد الله الوكوتي، والغالي العراقي، وعبد الواحد الراضي، ومحمد عابد الجابري (في غمار السياسة)، وكذلك مذكرات المعتقلين السياسيين (محمد الرايس، أحد الناجين من معتقل تازمامارت، وصاحب كتاب "من الصخيرات إلى تازمامارت"، والمنصف المرزوقي)، إضافة إلى العديد من الاستجوابات المطولة التي فضلها الساسة من أجل البوح بمذكراتهم.
دوافع قلة المذكرات السياسية
ورغم هذه المذكرات والشهادات السياسية المتناثرة، فإن قلة لجوء زعماء وقياديين إلى كتابة مذكراتهم يسوغها العلام بعدة اعتبارات ودوافع، الأول أن السياسيين المغاربة بشكل عام ليست لديهم قدرة على الكتابة أو ليست لديهم الرغبة في ذلك، فمساهماتهم العلمية ضعيفة جداً، بل نادراً ما يكتبون بشكل مستمر مقالات صحافية، وهذا أمر عام يشتركون فيه مع أساتذة الجامعات، الذين سجلت إحدى الدراسات أن نسبة تفوق 60 في المائة منهم كان آخر شيء كتبوه هو أطروحات الدكتوراه الخاصة بهم. الدافع الثاني، وفق المحلل ذاته، أنه "غالباً ما تنتشر المذكرات السياسية في الأوساط الديمقراطية، حيث حرية الرأي مكفولة، وسيادة الأمن، وانعدام الخوف من المتابعة أو الانتقام. أما في دول لم تتكرس فيها الحريات السياسية بعد، فغالباً ما تقل فيها المذكرات السياسية، لأن الخوف يكون طاغياً". والعامل الثالث، يضيف العلام، أن "هناك من الساسة المغاربة من لا يقنع بما حققه في حياته السياسية، ويبقى دائماً منتظراً فرصة المناداة عليه لمهمة رسمية، وأن يحظى بالتفاتة أو تكريم، لذلك يحجم عن كتابة أي شيء عن حياته السياسية حتى لا يلفت الانتباه أو يتسبب بحرج ما". ورابع الاعتبارات، يقول الخبير، إن "بعض السياسيين يعتقدون أن تاريخهم السياسي ليس حافلاً بالشكل الذي ينبغي له أن يُتضمن في مذكرات خاصة، أو يعلمون أن مسارهم السياسي ليس بالنزاهة التي يفترض أن تتوفر في كاتبي السير، لذلك يخشون الانتقادات والردود والتكذيب إذا ما هم بالغوا في تمجيد الذات، أو يتعرضون لانتقادات إذا ما هم كتبوا الحقيقة". ويضيف العلام سبباً خامساً لقلة لجوء الزعماء إلى كتابة مذكراتهم وشهاداتهم، متمثلاً في أن "سن الشيخوخة قد يصاحبه نوع من خيبة الأمل وفقدان الثقة، ويسود الإحساس بالندم، الأمر الذي يجعل بعضهم يفضل تدارك الوقت والحرص على الركون إلى الأسرة والاستمتاع بدفئها، بدل وجع الرأس الذي يمكن أن تسببه انتقادات الناس وتفاعلاتهم مع مضمون المذكرات".
الإضرار بالتوازنات
من جهته، يسجل الباحث السياسي وعضو مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية، كريم عايش، أن تدوين مذكرات السياسيين بالمغرب هو مجال في طور النمو، فالكتابات القليلة الموجودة، أمثال مذكرات حسن الوزاني، كانت حول تاريخ الحركة الوطنية، ومذكرات المحجوبي أحرضان وعبد الكريم غلاب، فهي قليلاً ما تخوض في التجارب المرحلية لهؤلاء أثناء تسيير الأحزاب أو تحمل المهام الحكومية. ويوضح عايش، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هذه المذكرات السياسية غالباً ما تتجنب ذكر تفاصيل حساسة أو مرتبطة بأطراف أخرى حتى لا تضر بالتوازنات الحالية، إذ برهنت التجربة السياسية في المغرب أن تجديد النخب لا يتم إلا بتجديد النخب العائلية المتحكمة بالأحزاب والانتخابات، ما يجعل تدوين المذكرات تدويناً للصراعات العائلية وعلاقاتها المعقدة وخبايا تحكمها في الحقل السياسي". وأشار إلى أن "السياسة في المغرب تتسم بارتباطها الوثيق بالصراعات الحزبية في ما بينها، ومع محيط القصر، لهذا يبقى الحديث عن المشاورات والمفاوضات من قبيل السر المهني الذي لا يجب البوح به، حفاظاً تارة على هيبة المؤسسات، وعلى المصالح المادية والامتيازات الريعية تارة أخرى"، وفق تعبيره.
تداعيات عدم البوح السياسي
ويرى عايش أنه "مع تطور الصحافة ووسائط التواصل الاجتماعي، فقد أصبح الخوض في التفاصيل مادة دسمة شيقة تغذي النقاشات وتذكي نار التصريحات والتصريحات المضادة، وأحياناً قد تشكل تهديداً لتركيبة الحكومة كما حدث أخيراً"، معتبراً أن "هذا يبرز مدى دقة وخطورة إخراج تاريخ الممارسة السياسية من السر والكواليس إلى العلن". ويلفت إلى أن "العزوف السياسي، والفضائح التي تطفو على السطح، وكذلك تبعات فشل النماذج التنموية، وبروز ما يعرف بالزلازل السياسية، خير دليل على أنها ما كانت لتحدث لو تم فتح سجل الممارسة السياسية بالمغرب، وصار كل زعيم ومسؤول سياسي يكتب بشجاعة عن تاريخ حقبته وممارسته ويناقش أفكاره ورؤيته آنذاك قبل تحمل المسؤولية والمعوقات والمشاكل التي اعترت طريقه أثناء مزاولته لمهامه". ويقول إن "عملية تدوين المذكرات السياسية، لو كانت موجودة، لمكنت من تجاوز أعطاب الديمقراطية، وفتحت الطريق أمام شباب متمكن من دهاليز السياسة ومنعرجاتها، لتكوين نخبة قادرة على استعمال منهج علمي واضح وتبني نماذج ميسرة وللاستقطاب والتجديد". ويضيف أن "هذا الغياب شكل في أذهان جل الشباب قطيعة مع الأجيال التي سبقته، طالما لا توجد شخصيات تاريخية كاريزماتية حاملة لفكر معين ومنهاج محدد يؤهلها للقيادة الفكرية السياسية"، مشيراً إلى أن "غياب ثقافة القائد والمثل الأعلى فتح الطريق أمام استمرار ثقافة ومنهج المريد في الثقافة الصوفية وزواياها، وأيضاً تبني سير كفاحية ذاتية وقيم فكرية مستوردة من الخارج ذات بيئة لا تتلاءم مع قيم وأوضاع المغاربة".