المدينة ويوسف

21 يونيو 2016
لوحة للفنان مارك رشلفيتش (Getty)
+ الخط -
لم تك أرضهم ضيقة. رغم ذلك سعوا لتكويرها كرغيف خبز ساخن، لتنشق رائحة حنطتها وخميرتها وعرق زارعيها ولهيب حطب أفرانها. ولطالما هتفوا من أعالي بيوتهم إلى حداة القوافل المسافرين في الاتجاهات الأربعة، لتذكيرهم بحفنة التمر من البصرة، وعناقيد العنب من دوما، لتعزية النساء في وحامهن، وفسائل برتقال من يافا، ليثبتوا التراب في التراب، وحفنة من حنطة سهول حوران، ليوثقوا عروة الأرض في الأرض. 

وصل وحيداً مع القوافل الآتية من العراق، بحقائب من خشب مصفح برقائق الحديد، وحزمة من آمال تنهض من كبوة قرون من الركود العثماني المطمئن، بينما مطارق التحديث تقرع البوابات الموصدة في العاصمة إسطنبول وولاياتها، تكافح لتقييد السلطة بالدستور، وتجاوز الهزائم العسكرية، التي بدأت تضرب جيوش السلطنة، بتحديث الأسلحة والنظام والإدارة، ولتدارك خروج الولايات العربية في أفريقية (الجزائر، تونس، مراكش، ليبيا، مصر) والبلقان (صربيا، اليونان....) عن الإمبراطورية، العمل على تنشيط التنمية الزراعية، بعدما هجر الفلاحون أرضهم تحت ضغط ظلم الانكشارية ومصادراتهم الدورية، وفقدان الحماية من الغزوات الدورية للبدو.

ولد يوسف بن عيسى كنعان في 14 مايو/ أيار 1856في بغداد التي جاءها والده من الموصل في الشمال. أتم الدراسة الثانوية في مدرسة الآباء الكرمليين في حارة "عقد النصارى" الواقعة على الضفة الشرقية لنهر دجلة. أتقن اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية، سعى له والده بمنحة لدراسة هندسة الأشغال العامة في إسطنبول، غادر إلى العاصمة حيث درس وتخرج مهندساً 1880 بتفوق أهلّه الحصول على منحة أخرى لمتابعة دراسته في المدرسة الوطنية للطرق والجسور في باريس. قصد فرنسا ونال شهادة مهندس في الأشغال العامة 1883، وعاد بعدها إلى بغداد. 

عمل في بغداد وسنجق دير الزور والموصل، قبل أن ترى الإدارة السنية في الباب العالي، ضرورة إرساله إلى مركز ولاية حلب في عام 1895.
وصل المهندس يوسف كنعان إلى مدينة حلب، وأعطي مركزاً مهمًا، وذا مسؤولية عليا في بلديتها، التي كانت قد تشكلت منذ عام 1866. أصبح من كبار مهندسيها، نظراً إلى وحدانية اختصاصه ولخبرته ومهارته التقنية.

شارك في اتخاذ جميع القرارات لإنشاء المباني المهمة، والشوارع الرئيسية والفرعية، بما في ذلك إعادة توزيع مياه الشرب، عن طريق الأنابيب الفخارية والمعدنية المستحدثة في المدينة.
تبين وثيقة عثمانية، سجل خدمات يوسف كنعان، التي عمل فيها قبل وصوله إلى مركز ولاية حلب. وتوضح أنه من مواليد 1856، عمل موظفاً وعمره 22 سنة، في قلم الترجمة في مصلحة النافعة في بغداد، ثم أصبح مأمور الترجمة في الولاية. درس الهندسة المدنية في إسطنبول، ثم تخرج من مدرسة الطرق والجسور في باريس عام 1883. عين في العام ذاته مهندساً في سنجق دير الزور، ثم كبير مهندسي النافعة (الأشغال العامة) في السنجق نفسه، ثم نقل 1893 ليعمل مهندساً في الموصل، ونقل 1895 ليعمل مهندسًاً في النافعة (الأشغال العامة) في ولاية حلب، براتب شهري قدره ألف قرش.
أقام عند وصوله حلب، في بيت "عائلة كوبا" في حي الصليبة، القائم إلى الجنوب من ساحة المطران جرمانوس فرحات، وهو بيت عربي تقليدي واسع، ذو باحة وإيوان وفسقية ماء، دوّن على إحدى خشبات سقف غرفه، تاريخ تشييدها 1780.

تزوج في هذا البيت عام 1900، بعد رحيل أصحابه إلى إيطاليا، من الآنسة كليمانتين عبديني، ابنة جورجي عبديني، وهو من العائلات الثرية. انحدر من أسرة لبنانية سكنت في محلة الصليبة، ثم انتقلت إلى العزيزية، عمل تاجراً في خان الفيلكروز - عمر سالم الآن - له بعض الاهتمامات الأدبية وكتابة الشعر. تولى عضوية مجلس ولاية حلب، وعضوية غرفة التجارة، توفي عام 1942 في بيروت. أثمر زواجه أربع فتيات: مادلين، مارغريت، إيزابيل، أنجيل.

كان يوسف كنعان كتوماً، قليل الكلام مع بناته وكل من حوله من الأصدقاء والزملاء. ونادراً ما أتى على ذكر مكانة عائلته، وغناها ومركزها في العراق. حيث حمل جده لقب "باشا" من السلطنة العثمانية، الذي لا يمنح عادة إلا للولاة والوزراء وكبار الموظفين. وكانت له تجارته وسفنه المبحرة بين البصرة والهند، وعرف بتربيته الخيول العربية الأصيلة، وقيامه برحلات الصيد مع كبار أعيان الدولة العثمانية في بغداد.

أرسله الباب العالي إلى منطقة "وان" في شرق الإمبراطورية العثمانية 1909، للمساهمة في وضع المخطط التنظيمي الجديد، وتنظيم الأشغال العامة في المدينة. ذهب إلى هناك، مع عائلته وأمضى 15 شهراً، وعاد بسبب مرضه إلى موقعه في مدينة حلب.


تزامن عمل المهندس يوسف كنعان، مع وجود الوالي رائف باشا الذي حكم ولاية حلب بين 1896-1900، وكان من أهم الولاة بعد الوالي جميل باشا 1880-1886، وكانت لرائف باشا تصورات حداثية لعمران المدينة، عززها ابنه المهندس راغب بك، كما تصورات تجديدية للمجتمع والدولة وفرتها علاقته المتينة وحواراته مع مدحت باشا (أبو الدستور)، حيث عمل معاوناً له أثناء ولايته على بغداد، وفي أيامه عين عبد الرحمن الكواكبي رئيساً لغرفة التجارة والصناعة بين 1896-1901.

تزامن ازدهار حركة البناء والتوسع المديني، مع إنشاء محطتي الخط الحديدي محطة الشام 1906 ومحطة بغداد 1912، حيث بدأ وصول الجيزان المعدنية من معامل الفولاذ الأوروبية، حيث حققت النقلة النوعية الأولى في البناء، وساعدت في توسع الانتشار العمراني في الجهتين الغربية والشمالية لحلب، وإلى الامتداد الشاقولي للعمارات، وعدم الاكتفاء بطبقتين. كما ساعدت على التوسع في إقامة الشرفات المطلة على الشارع، باستعمال الجيزان "البوتريلات" الحديدية، عوضاً عن الأظفار الحجرية التي تعلوها الجيزان الخشبية، التي أخذت اسم الأكشاك أو المشربيات، ولا تزال بقاياها في أحياء العزيزية والجديدة والجميلية. تحققت النقلة الثانية، بعد تعميم استعمال الإسمنت والبيتون المسلح في البناء.

بالإمكان رصد المباني التي تم إنشاؤها في فترة تولي المهندس يوسف كنعان موقعه رئيساً للمهندسين وخبيراً في التخطيط المديني، رغم أن المنشآت الحكومية، تحمل اسم الولاة والحكام، لا أسماء من خططوا لها وسهروا على تشييدها. ساهم في تصميم مخفر العزيزية 1899 وإنشائه، والمصرف الزراعي شمال القلعة 1910، ودائرة المعارف (موقع شرطة النجدة، بداية شارع التلل، على مقربة من ضريح السهروردي) 1910، وبناء محطة الشام (في حي الجميلية، قرب مبنى المالية الحديث)1906، ومحطة بغداد 1911(حي محطة بغداد). وفتح الشوارع والمتنزهات والحدائق، كما في شارع الممتد من نهاية شارع التلل باتجاه الشمال في حي السليمانية، وشارعي قسطاكي الحمصي وفارس الخوري الحاليين في حي العزيزية. بالإضافة إلى تمديد القساطل المعدنية لمياه الشرب من عين التل.

وفق المخطط التنظيمي الذي حققه المهندس الألماني يونغ عام 1899، الذي اعتمدته بلدية المدينة، وبات يعرف بـ"مخطط يونغ"، حيث عملت البلدية في حينها، على توظيف مجموعة من المهندسين الأوروبيين، لتوجيه أعمال التخطيط والمحافظة على سوية عالية، في تصميم الأعمال المعمارية وتنفيذها، مثل المهندسين الفرنسيين شارل شارتيه وشارل غودار. بقي يوسف كنعان في موقع مدير النافعة (الأشغال العامة) بحلب في الفترة بين 1918- 1925 حيث أحيل على التقاعد. وتوفي يوم الأحد 30 تشرين الأول 1932 في مشفى "القديس لويس" القائم في حي الإسماعيلية.

عزيز تبسي حلب أيار 2016
دلالات
المساهمون