ويصعب ألا يلحظ الزائر إلى البلاد الواقعة في أميركا الجنوبية وجود ذوي الأصول العربية، لكنه سيلحظ في الوقت ذاته عدم انتشار اللغة العربية بينهم، حتى أن بعضهم لا يفهمها، أو يفهم مفردات محدودة منها، ومنهم أشخاص في عقدهم الثامن أو التاسع.
يشرح عدد من كبار السن في العاصمة سانتياغو، لـ"العربي الجديد"، أن اللغة العربية بقيت في الذاكرة بفضل الجدات اللاتي كن يتحدثن العربية في البيوت، ورغم غياب اللغة عن اللسان إلا أنه عند الاختلاط بذوي الأصول الفلسطينية يظهر عدد من المفردات العربية، كما يمكن ملاحظة اللكنة الفلسطينية القديمة، خصوصا في وصف المأكولات التي ظلت باقية بعد المهاجرين الأوائل من خلال الجدات والأمهات، ومنها "المصارين" التي حورت في الإسبانية إلى "مزارين" للإشارة إلى الأكلة العربية التي تحتوي، إلى جانب بقية أنواع المحاشي، مصارين الخرفان المحشوة.
وثمة عاطفة قوية عند كبار السن تصل إلى حد انهمار دموع جابر صالح إزرن (92 سنة)، المولود في تشيلي، حين يتحدث عن فلسطين، خلال لقاء "العربي الجديد" به في "النادي الفلسطيني"، وهو يؤكد أن ثمة جيلا خامسا من أصول فلسطينية.
في تشيلي تختلط الأنساب بشكل مثير للانتباه، ويقول المهندس الشاب أوغستو، أثناء تناول "المزارين" والكنافة مع أصدقائه في النادي الفلسطيني، إن "ست أمي من حمص في سورية، وجد جد والدي من بيت ساحور في فلسطين".
وتظل الجالية الفلسطينية، أو كما يطلقون على أنفسهم "التشيليون الفلسطينيون"، هي الأكبر عددا، وتجذب إليها بقية العرب الذين انصهروا أيضا تزاوجا وتعارفا بعد الهجرة منذ بداية القرن الماضي.
تروى القصة باختصار، فقد جاء المهاجرون الأوائل على البواخر بين 1850 و1880، وبعد ذلك حدثت موجة هجرة ثانية في بدايات القرن العشرين، وكان المهاجرون يسعون لتحسين أوضاعهم المعيشية، أو إيجاد مكان أفضل لأسرهم في فترات مختلفة من تاريخ المشرق العربي، وبقيت بعض أسرهم وراءهم قبل أن يجلبوها لاحقا، وكافح غالبيتهم لتأسيس حياة، فعمل كثير منهم بائعين متجولين، قبل أن تندمج أسرهم في مجتمع تشيلي المنفتح.
وما ميز الهجرة الفلسطينية والعربية أنهم لم يقوموا كغيرهم من مهاجري أوروبا بالإنغلاق على أنفسهم، وشرح الشاب دييغو توماس خميس، أن "الفلسطينيين قاموا بتعمير منطقة باتروناتو، لتصبح محلاتهم ومصانعهم، وخصوصا مصانع النسيج، مكانا جاذبا للتشيليين والفلسطينيين، فصار الاندماج أسهل".
وأوضح مدير "المدرسة العربية" في سانتياغو، خورخي لويز ألاما إلياس، لـ"العربي الجديد"، أن "اللغة أُهملت بعد أن انشغل الناس بالأعمال، ومواجهة النخبة التشيلية التي كانت ترفض أن يدخل الفلسطينيون إلى السوق. في أسرتي كمثال، حضر أول المهاجرين في 1850، وسعى كغيره إلى تحسين وضعه المعيشي، ومثله كثيرون، حتى وصلنا إلى ما تراه اليوم من نجاح فلسطينيي تشيلي، والذين يتخطى عددهم حاليا نصف مليون شخص".
وأضاف إلياس: "بعد الاستقرار، بدأ الناس يفكرون بنواد اجتماعية صغيرة لحفظ العادات والتقاليد والطعام والدبكة وغيرها، ولعبت تلك الأندية دورا في الحفاظ على الهوية، لكنها أهملت اللغة، ورغم أن المجتمع التشيلي يصهر القادمين إليه بانفتاحه، ظلت التقاليد والإرث الحضاري لأصحاب الأصل الفلسطيني والعربي قائمة".
وتأسست المدرسة العربية في سانتياغو في 1977 بمبادرة من أسر فلسطينية، وتضم صفوفا من الروضة حتى الثانوية، وتمتد على مساحة واسعة، وتمتلك باحة خضراء، وقاعة رياضية ملحقة بها.
تخرج خورخي إلياس من المدرسة نفسها، ودرس لاحقا الهندسة الصناعية في جامعة سانتياغو، وهو يدير المدرسة حاليا، ويرتادها أطفاله. ويشرح: "قبل بناء المدرسة، كانت للنساء الفلسطينيات مبادرات مبكرة، بينها افتتاح صف روضة للصغار يدرس العربية كجزء من النشاط الاجتماعي في النادي الفلسطيني، ووجدت المبادرة قبولا كبيرا بين آباء أرادوا لأطفالهم تعلم لغة الأجداد، ولكن لم يتسع الصف لقبول الأعداد الكبيرة، فقرر مقتدرون، من أسرتي اسبيرازا وخاروفه من بيت جالا، التبرع لوضع حجر أساس هذه المدرسة التي تضم اليوم 400 طالب من مرحلة الروضة والابتدائي إلى الثانوية".
كانت المدرسة عند افتتاحها عام 1977 ذات صبغة فلسطينية، لكنها لاحقا استقبلت الطلاب من أصول عربية، ويؤكد خورخي إلياس أن 78 في المائة من تلاميذها حاليا من أصول عربية، فضلا عن بعض التشيليين الذين يختارون تسجيل أطفالهم فيها حبا للثقافة العربية، ولمكانة الفلسطينيين في المجتمع.
ويثير الانتباه أثناء التجوال في المدرسة العربية، أنك كلما أردت التقاط صورة للتلاميذ تجدهم يرفعون شارة النصر، وحين تسأل عن تلك العادة، يأتيك الجواب مؤكدا أنهم توارثوها عن الآباء.
وقالت أستاذة اللغة العربية ثريا محمد سليمان، ذات الأصول السورية، أن المدرسة "جزء من النظام التعليمي التشيلي، ويزيد عليه تدريس اللغة والثقافة والأدب والتاريخ العربي، فلدينا دروس عن أبرز شخصيات التاريخ العربي، ولا يغيب الشعر، وخصوصا نزار قباني ومحمود درويش، بالإضافة إلى الموسيقى العربية، والدبكة الفلسطينية التي تعد أساسا في تعلم الفنون والمسرح في المدرسة".
حين تتحدث إلى التلاميذ الصغار بالعربية يجيبون بلغة عربية جيدة، وعلى الفور يذكرون من أية أسرة أو بلدة هم في فلسطين، حتى تلك الطفلة السورية، التي حضرت أسرتها قبل 6 سنوات فقط، تعرف أين تقع مدينة أهلها حلب، وتعبر عن سعادتها لكونها "أشطر تلميذة بالعربي، لأن أبي وأمي لا يتحدثان معي سوى بالعربية".
وينتشر شجر الزيتون حول البناء، فطلاب المدرسة يزرعون شجرة زيتون سنويا في مناسبة ذكرى الاستقلال الفلسطيني، ورغم تراجع اللغة العربية، إلا أن المأكولات الفلسطينية باقية، خصوصا مع الانفتاح الذي لا يضطر أحفاد المهاجرين إلى إخفاء أصولهم الفلسطينية أو العربية.
وقال خورخي: "استغرق التعريف بالهوية الفلسطينية وقتا من المهاجرين الأوائل، فكلهم حضروا بأوراق عثمانية، وكان يطلق عليهم (توركو)، ولكنهم رفضوا تصنيفهم أتراكا، وخاضوا صعابا في سبيل الأسماء التي كانت تحرف من قبل دوائر الهجرة لصعوبة نطقها، وبعد تعلمهم اللغة الإسبانية عدلوا كثيرا في الأسماء، فيمكنك أن ترى حاليا في شهادات الجنسية التشيلية أن الشخص من مواليد فلسطين".
وتؤكد ثريا أن المدرسة العربية في سانتياغو خرجت المئات ليصبحوا مهندسين وأطباء وسياسيين مرموقين في البلد، "وأهم ما يميز هؤلاء أن الهوية والثقافة، وقضية فلسطين بالأخص، صارت جزءا أصيلا من حياتهم ونشاطاتهم، وصاروا يرسلون أطفالهم إلى المدرسة ليصبحوا من تلاميذها كما كانوا هم في السابق".