المجال العام في قبضة الشرطة المجتمعية

31 يوليو 2015

مغربيات يتظاهرن احتجاجا على اعتقال فتاتي "التنورة" (6 يوليو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
يرمق الرجل شزرا الصبية المرتدية لباسا "فاضحاً" في الشارع. يخرج هاتفه الخاص، ويصوّر نفسه، وهو يشتم الصبية باعتبارها استفزت مشاعره، قبل أن ينشر الشريط على الشبكة الإلكترونية، بوصفه مثالا يضرب لشجاعة "المواطنين الشرفاء" في تأديب منتهكي المتعارف عليه في الممارسات المقبولة في المجال العام. 
تعمل الشرطة المجتمعية ليل نهار، تراقب المواطنين، وتتدخل عند الحاجة لفرض التزامهم بالقواعد المرعية مباشرة، عبر تصحيح الأوضاع "الشاذة" بأنفسهم، أو بالاستعانة بالشرطة. شكّل الجدل حول السلوك الأخلاقي المقبول في المجال العام في المغرب، في شهر رمضان المنصرم، مثالا على الصراع الدائر في أكثر من مكان في العالم العربي على امتلاك المجال العام وتوظيفه. القضاء المحلي في مدينة إنزكان قرب أغادير (جنوب المغرب) يحاكم شابتين ارتديتا تنورة قصيرة في الشارع، بتهمة الإخلال بالحياء العام، بعد أن تعرضتا لاعتداء من مجموعة من الشبان وتجار محلة شعبية، اعتبروا التنورة استفزازا لغرائزهم الدفينة. جمعيات حقوقية ونسوية تتبنى الدفاع عن "الحق بالتنورة" في المجال العام في حملة إلكترونية، تنجح في حشد الشارع تحت شعار "صاية_ماشي_جريمة‬"، أو التنورة ليست جريمة. يتراجع القضاء تحت ضغط الضجيج المحلي والعالمي، ليعلن براءة الشابتين. تتخذ الحملة عنوان الدفاع عن حقوق المرأة، العزيز على قلب النخبة الفرنكوفونية، والدعوة إلى التعايش السلمي بين تناقضات المجتمع المغربي. تتوالى فصول الصراع على المجال العام، ولو أنها لا تثير اهتماما بحجم الجدل حول حق ارتداء التنورة. اعتداء على مثلي الجنس بالضرب المبرح في فاس، وتوقيف شبان تجرأوا على شرب الماء في ساحة عامة في مراكش، في وضح النهار. لافتات ترتفع بالأبيض والأسود على شواطئ تطلب من روادها احترام رمضان في لباسهن.
يعكس تطور دور المواطن رقيب الشارع الصراع الدائر حول امتلاك المجال العام بين نخب ليبرالية آفلة وغالبية محافظة مدعومة بنخب اقتصادية وسياسية صاعدة. ولعل تركيز ردة الفعل لدى الفريق الأول على الشعارات الحقوقية النسوية، على أهميتها، يعكس عجز هذه المجموعة المغرقة في هامشيتها على مقاربة المشكلة، حيث هي في الأساس مشكلة الحريات الفردية في المجال العام، وهي كل لا يتجزأ، ولا تقتصر على حق ارتداء النساء اللباس القصير في الشارع، بل تشمل ما هو أهم من ذلك بكثير.
ولا تقتصر ظاهرة الرقابة المواطنية على السلوك الفردي في المجال العام على المغرب، بل باتت ظاهرة يومية في العالم العربي، وأبرز وجوهها صك المواطنة الصالحة الذي يفرضه "المواطنون الشرفاء" في مصر على "الخونة" من مواطنيهم، و"الجواسيس" من الغرباء الدخلاء. في كل الحالات، لا يقوم المواطن الرقيب بدوره من تلقاء نفسه، كما تدّعي الأنظمة ووسائل إعلامها عبر نسبة هذه الظاهرة المتنامية إلى مزاج شعبي عام، بل تفيد في الواقع من تشجيع ضمني أو علني من الأنظمة التي ترى في الشرطة المجتمعية وسيلة إضافية وفاعلة لضبط الشارع ومنعه من الخروج عن الطاعة.
سجل الشارع العربي تراجعا للحراك الداعي إلى تعزيز الحريات، في ظل ارتفاع غير مسبوق للقمع بكل أنواعه، إلا أن هذا التراجع لا يقتصرعلى انكفاء شعارات الديموقراطية، لحساب شعار الاستقرار، إنما يعبر عنه بالدرجة الأولى انكفاء مساحة التعبير الفردي في المجال العام، حتى في أبسط أشكالها، بدعم من ترسانة من القوانين تحكم السلوك الفردي في أطر فضفاضة، كالحديث عن الإخلال العلني بالحياء العام أو البذاءة بالأفعال وما شابهها. والأهم أن ما يعزز هذا الانكفاء تراجع شهية النخب الليبرالية، الحاملة افتراضا شعار الحريات الفردية، عن خوض غمار المعركة، مفضلة عليها النزاع السياسي ومكاسبه.
أن يتحول المجال العام ساحة مبارزةٍ، يحكمها الأقوى، فيمارس رجل الشارع الرقابة على طول التنورة التي ترتديدها النساء في الشارع، ويصبح شرب الماء في وضح النهار مغامرةً تنذر بعواقب، ويعاقب مواطنون آخرون على سلوكهم الجنسي المفترض.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.