المثال المتطرف في كوريا
يبدو الفرق اليوم بين الكوريتين، الشمالية والجنوبية، مثالاً متطرفاً على التقدم والفشل، بناء على النموذج المتبع في السياسة والاقتصاد. ففي حين تحولت كوريا الجنوبية من بلدٍ فقير إلى دولةٍ غنيةٍ ديمقراطية، ظلت كوريا الشمالية مثالاً على الاستبداد والفشل الاقتصادي. وبالطبع، هناك مثال الصين على النجاح الاقتصادي، في ظل شمولية سياسية. ويمكن، أيضاً، الحديث عن روسيا، وإن كانت نموذجاً مختلفاً عن الصين، لكنها تتقدم اقتصادياً، وتتبع نموذجاً سياسياً مختلفاً عن الصين، ولكنه أيضاً مختلف عن الديمقراطية الغربية، وثمة دول أخرى تتقدم، اليوم، في سلم الاقتصاد والتنمية، وتتبع نماذج متعددة، مثل تشيلي والبرازيل والهند وسنغافوة وبوتسوانا وفيتنام وتركيا وماليزيا،... والحال أَنها نماذج متعددة ومختلفة، ويغلب عليها التوفيق بين الأنظمة السياسية والاقتصادية المتبعة في الغرب، ولعلها أقرب إلى أن تكون واقعيةً، أكثر مما هي رأسمالية ليبرالية، أو رأسمالية كينزية، أو اشتراكية ديمقراطية، أو ليبرالية اجتماعية، فالهند والبرازيل تمزجان بين الرأسمالية والاشتراكية، إلى حد ما يمكن وصفه بالجمع بين المتناقضات، لكنها دول تتقدم على أي حال.
كانت كوريا مستعمرةً يابانية، وبعد الحرب العالمية الثانية، وجدت نفسها مقسومةً بين مناطق النفوذ، الجنوبية أصبحت جزءاً من نفوذ الولايات المتحدة، والشمالية أصبحت جزءاً من نفوذ الاتحاد السوفيتي.
يعرض دارون اسموغيلو وجيمس روبنسون في كتابهما "لماذا تفشل الدول" المثال التالي لعرض الفرق بين الكوريتين وتلخيصه، ببساطة في حوارٍ جرى بين أخوين، التقيا في برنامج لم شمل العائلات بعد خمسين سنة من قيام الكوريتين. كان أحدهما صيدلانياً والآخر طبيباً، عندما افترقا عام 1950. وعندما التقيا عام 2000، كان الأخ الذي وجد نفسه في الشمال قد حصل على وظيفةٍ جيدة في الجيش، لم يكن لديه سيارة ولا هاتف، وعندما حاول أخوه الجنوبي تقديم المال له، قال له إن الحكومة سوف تستولي عليه. وحاول الجنوبي أن يقدم معطفاً جيدا لأخيه، بدل معطفه المثقوب، فأجابه إنه لا يمكنه ذلك، لأنه يجب أن يعيده إلى الجيش، وحيث كان يعيش الشمالي في مستوى مقاربٍ لأفريقيا جنوب الصحراء، فإن الجنوبي يعيش في مستوى مماثل للمعيشة في أوروبا. هذا الفارق الكبير في مستوى المعيشة والدخل والخدمات لم يكن موجوداً قبل الحرب العالمية الثانية.
وفي وقت دخلت كوريا الجنوبية في برامج للتنمية والتحديث، سلكت الشمالية باتجاه شموليٍّ دفع بها الى الدكتاتورية والمجاعة والفقر، إلى درجة أن مستوى المعيشة، اليوم، في الجنوبية يتفوق بعشرة أضعاف على نظيره في الشمالية. وبالطبع، لا الجغرافيا والموارد، ولا الثقافة ولا الكفاءة، يمكن أن تفسر التفاوت بين الكوريتين. ولكن، تختلف الدول فيما بينها في النجاح الاقتصادي، تبعاً لمؤسساتها وتأثيرها في الاقتصاد والأعمال والحوافز التي تدفع الناس إلى العمل. ولنتخيل، يقترح المؤلفان، ما يتوقعه المراهقون في حياتهم في كوريا الشمالية والجنوبية، إنها توقعات يحكمها التعليم ونوعيته، والأسواق والفرص الواعدة، والمهارات التي يحتاجون إليها. في كوريا الجنوبية، يبني الشباب توقعاتهم على سوق قائم على الملكية الخاصة والتنافس، وفرص تحسين معيشتهم، وحصولهم على المنازل والسيارات والرعاية الصحية. أما في كوريا الشمالية فخياراتهم محدودة ومحددة أيضا، وبطبيعة الحال، إنها توقعات تنعكس على المستوى الاقتصادي والمعيشي والمستقبل أيضا.
تتقدم الدول والمجتمعات بما تقدمه من حوافز وحريات، تطلق المواهب والمبادرات، وتحمي الملكيات والحقوق، وبغير ذلك، فإن الرواد من رجال الأعمال والعلماء والموهوبين والمتفوقين يشعرون أنهم يسرقون، ولن تتشكل حوافز للاستثمار والعمل والإنتاج والابتكار. كما أن الدول والأنظمة السياسية الناجحة تؤسس للحريات والأسواق التي تضمن الإبداع وتنمية المواهب، وتفتح المجال للتنافس العادل والإبداع، وتمهد الطريق إلى الازدهار بتوفير التعليم والتكنولوجيا. وبالنظر، اليوم، إلى سلسلة الاختراعات والتحسينات التي أدخلها الموهوبون والمبادرون إلى الحياة، مثل الكهرباء والأجهزة والسيارات والروبوتات والأدوية، يمكن ملاحظة إلى أي مدى أسهمت الأنظمة السياسية والاقتصادية الناجحة والعادلة في تحسين الحياة. وهنا، يمكن، ببساطة، التساؤل الذي يحمل الإجابة في الوقت نفسه، لماذا كان توماس أديسون أميركياً ولم يكن مكسيكيا؟ ولماذا كانت شركة سامسونغ كورية جنوبية، وليست شمالية؟
يمكن الربط، ببساطة، بين انخفاض مستوى التعليم والمستوى الاقتصادي وكفاءة المؤسسات، فالأسواق الفاشلة والمحدودة تؤدي، أيضاً، إلى فشل في بناء المواهب واستقطابها، ومن الواضح أن هناك علاقة وثيقة بين التعددية والدول والمجتمعات الناجحة. وفي المقابل، إن المؤسسات السياسية الفاشلة تعمل لصالح فئة محدودة، وتقيم الحواجز وتقمع أداء السوق والمجتمعات. نظام العبودية والسخرة، على سبيل المثال، كانت تحميه مؤسسات سياسية قمعية. واليوم، الحالة نفسها، أو قريبة منها، يمكن ملاحظتها في الدول التي يمكن وصفها بالفشل في أنحاء واسعة من العالم، والذين تتشكل مصالحهم حول الواقع الفاسد، .. وتدور حلقة شريرة لصنع الفشل وحمايته.