المتحرش والمتحرشة ومارادونا

05 يوليو 2018
هل حركة مارادونا تحرش؟ (ستيفان ماتزكي/Corbis)
+ الخط -
وقفت جوليا معتدةً بنفسها تستعدّ لمداخلتها التلفزيونية أمام استاد إيكاترنبيرغ قبيل ختام مباراة السنغال واليابان في مونديال روسيا، وما كادت أن تبدأ حتى بادرها أحد المشجعين محاولاً تقبيلها. بسرعة تجنبته وتصرفت، غير آبهة للبث المباشر. فإن كان يحاول أن يشهد العالم سطوته بقبلة، فليشهد إذاً تأنيبها له، والذي ختمته المراسلة البرازيلية بمطالبتها له بالاحترام، ليأتي صوته خافتاً فهو مضى مبتعداً، قائلاً "آسف".

لم تسنح فرصة التأنيب المباشرة هذه للمراسلة الكولومبية الأصل جوليت غونزاليس ثيران لمتحرش آخر اقتنص قبلة على الهواء قبل أيام من حادثة جوليا، باحترافية عالية تابعت مداخلتها على الهواء وكأن شيئاً لم يحصل، إلا أنها علقت لاحقاً على الحادثة بتغريدة حزينة تختمها بأن التحرش الجنسي يجب أن يتوقف.

بكل الأحوال، تعرضت التغطية الإعلامية للحادثتين (تعرضت صحافية في فرانس 24 للتحرش على الهواء أيضاً) لسياقهما الأوسع، حيث تم الحديث عن حملة تقوم بها اثنتان وخمسون مراسلة برازيلية عن التحرش في مجالات العمل، جزئية تضاف للحملة التي تحمل وسم "أنا أيضاً" (metoo#) بعدما اشتد عودها أواخر العام الماضي.

منذ ذلك الحين، أصبحت وسائل الإعلام تركز على مواضيع التحرش وقصصه بنسبة أكبر، ولكن لكيلا يكون لدينا وهمٌ ما حول الدور التوعوي أو المبدئي لمعظم وسائل الإعلام العالمية والعربية، دعونا نلحظ نقطة بداية التركيز وأسبابها.



بدأ التركيز الإعلامي على حملة "أنا أيضاً" في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مع العلم أنها قبل أن تكون وسما أو حملة، كانت حركةً بدأت عام 2006 بهمة الناشطة الأميركية الأفريقية الأصول تارانا بروك، والتي كانت قد تعرضت لاعتداء جنسي. ومن رحم تجربتها أنشأت الحركة بهدف مساندة نساء البشرة السمراء لبعضهن البعض بمواجهة ظاهرة الاعتداء الجنسي والتحرش.
إذاً "أنا أيضاً" لم تكن وليدة البارحة القريب إلا أنها إعلامياً لم تملك مقومات الإثارة، إلى اللحظة التي استخدمت فيها الممثلة إليسا ميلانو عبارة "أنا أيضاً" لدعم صديقتها الممثلة أيضاً روز ماكغوين عندما اتهمت هارفي وينستين أحد أهم منتجي الأفلام في هوليوود بالاعتداء عليها. ومن هنا بدأ الكرنفال الإعلامي.
مع اكتمال عناصر الإثارة، ممثلات وأسماء كبيرة فمحاكم وفضائح، تكتمل أيضاً عناصر النفاق الإعلامي. فالحركة سابقاً لم تكن لتستحق تغطية، فتارانا بروك المؤسسة لم تكن مثيرة، هي غير مشهورة، أفريقية الأصل، ليست جميلة بمفهوم النمطية للجمال، وقصتها وقصص نساء حركتها مرتبطةٌ بأفراد عاديين لا عدسات تلاحقهنّ، بالتالي على مقاسات الإعلام لم تكن لتستحق الاهتمام أو باللهجة والمنطق الدراج "قصتها مو بياعة". حتى عندما باتت تارانا فرضاً على وسائل الإعلام بعد انتشار وسم "أنا أيضاً" في كل أنحاء العالم، لم يُسمح لها بالظهور كما هي، فعلى سبيل المثال عندما كرمتها "العريقة" مجلة "تايم" وتصدرت غلافها، تدخل الفوتوشوب وجملها بمقاييس جماليات الكاميرا لا الروح، إضافةً إلى أنها لم تتصدره لوحدها بل كانت برفقة ممثلات وشهيرات هوليود كآشلي جود وروز ماكغوين وأخريات.



ليست المرة الأولى التي تحتاج وسائل الإعلام لاسم براق لتهتم بمأساة أو مشكلة حقيقية: دارفور احتاجت جورج كلوني لتكون في العناوين الرئيسية. مخيمات اللاجئين احتاجت أنجيلينا جولي لتصل صور أطفال المخيمات البائسة لغرف جلوس المشاهد.
مدركة كانت تيرانا لهوامش النفاق الواسعة، وعبرت عن قلقها بانحراف الحركة عن هدفها الأصيل، وتمنت لو أن كل هذا الدعم يذهب لصالح ما سمته "العمل الحقيقي" تجاه ظاهرة التحرش، ولكن أيضاً البراغماتية تقول انحني للموجة، خاصةً عندما تلتقي وإياها بهدف عام، وهذا ما فعلته هي، وربما هذا ما يجب أن نفعله ونقدر أنه بالنهاية باتت مواضيع التحرش محفوظةَ المكان إعلامياً، على أمل أن يكون التعاطي واعياً وهادفاً، ولكن من إشارات هنا وهناك لا يزال التعاطي سطحياً بل وفي بعض الحالات مسيئا.


نأخذ حادثتي المونديال والتغطية الإعلامية لهما مثالاً. الحق يُقال إن العناوين التي استخدمت وصف متحرش أو تحرش كانت كثيرة، وهذا جيد أن تتم تسمية الفعل بشكل واضح، إنما أيضاً الوعي لا يزال محدوداً عن وسائل أخرى استخدم بعضها وصف "قبلة" كما فعلت سبوتنيك الروسية في عنوان أصفر جاء كالتالي (بالفيديو "قبلة" من مشجع تثير غضب مراسلة رياضية)، بالنظر إلى تركيبة العنوان فحسب المحرر في سبوتنيك وبتسلسل الأهم فالمهم يأتي الفيديو أولاً والقبلة ثانياً وفي هذا محاولة بائسة لاستقطاب المشاهدات، ليأتي رد الفعل ثالثاً، فصاحبة الشأن أخيراً، كصحافية أجرأ أن أصف منطلق العنوان بمتحرش بحد ذاته. هذا النوع من العناوين الصفراء، لا يتحمل مسؤوليتها فقط محرر ما يُقيم عمله بمؤشر القراءات أو المشاهدات، بل هي مسؤولية مشتركة مع المتلقي الذي ينفر من الحقيقة، ولكنه ينصت للفضيحة.



عربياً ومن دون الحاجة لدراسة مدعمة بأرقام، ففي زيارة استطلاعية لأكثر الموضوعات قراءةً في المواقع العربية، تتصدر العناوين الصفراء التي تحوي إشارات جنسية أي موضوع آخر، رغبة جامحة لدى المتلقي العربي بمعرفة قصص التحرش والفضائح. أما التحرش وما دوافعه والعمل الحقيقي يأتي في خلفيات الخبر وفِي خلفيات الاهتمام.. مساحة أخرى تمتزج بها المسؤوليات ما بين الوسيلة الإعلامية والمتلقي، ويظهر اللاوعي عند الطرفين فالتحرش تعريفاً هو مُضايقة، أو فعل من النوع الجنسي غير مرحب به أو متفق عليه بين الطرفين، طيف هذه الأفعال واسع فمن انتهاكات بسيطة إلى مضايقات جادة، أي من التلميح أو التلفظ وصولاً للفعل.

بناءً عليه يكون ما تعرض إليه مراسل التلفزيون المصري فتح الله زيدان في تغطيته لمونديال روسيا تحرشاً، عندما اقتنصت منه روسية قبلة على الهواء. ولكن العناوين الإعلامية العربية وبشكل فج ومميع كانت تعرض للحادثة كالتالي "حسناء روسية تقبل مراسل التلفزيون المصري" أو "مشجعة روسية تنقض بالقبل على المراسل المصري". ومن روح هذه العناوين تأتي التعليقات الذكورية العربية بتهنئة المراسل على "حظه السعيد". هل سأل أحدهم إن كان المراسل سعيداً بما حصل؟ هل حصل بموافقته؟ هل يتوافق ونمط حياته؟ هل التحرش فقط محصور بالمرأة؟ أم أنه هو أي فعل لا يحصل بموافقة الطرفين!

بنفس الاتجاه يندرج تحت تعريف التحرش ما فعله دييغو مارادونا أسطورة اللعبة الأرجنتينية في مباراة نيجيريا والأرجنتين، عندما توجه للجمهور النيجيري بحركة "معيبة" فيها ملمح جنسي. وسائل الإعلام لم تتجاهل اللقطة، تناقلتها بالطبع، وإنما التركيز الخبري كان إما على صديقة مارادونا التي حضرت معه المباراة أو على صحته التي انهارت بعدها، المتلقي على السوشال ميديا بدوره تعاطى بالنكتة مع ما فعله مارادونا، والبعض اعتبره فوق المساءلة فهو أسطورة كروية أو لنقل سارق كأس العالم عام 1986 بهدف سجله بيده.

هل أسطورة مارادونا الكروية كافيةً لتسمح له بالتحرش بجمهور كامل؟ هل أسطورة مارادونا الكروية لم تنته عندما هزمه فريق خورفكان وأخرج نادي الفجيرة الذي يدربه مقابل الملايين من الدور الأول؟ هل الأسطورة أساساً كافية لتسمح لأي كان أن يتحرش بفرد أو جمهور؟ أم أننا نحتاج لإليسا ميلانو لتتحدث عن تحرش مارادونا، ونكتشف إعلامياً كم هو مثال سيئ كإنسان وكأسطورة كرة قدم؟
المساهمون