يبقى حلم المؤلّف، سواءً أكان قاصًا روائيًا أو شاعرًا، أستاذًا جامعيًا أو باحثًا متخصصًا في مجال معين، متمثلًا في رؤية مؤلفِه على رفوف المكتبات. فالكتاب يمثّل جهدًا إبداعيًا يستغرق كثيرًا من الوقت وسهر ليالٍ طوال، ولكن كثيرًا ما يجد المؤلف نفسه مضطرًا لدفع المال لقاء أن تقبل دور النشر طباعة ونشر كتابه، وفي النهاية لا يسترجع ربّما حتى أمواله من أرباح المبيعات. يعتبر هذا مشكلًا عالميًا، لا يقتصر في الواقع على الدول العربية. فحتى في الغرب يشتكي المؤلّفون المغمورون من الأمر.
نستحضر في هذا الصدد، لقطة في مسلسل عربي شهير، حينما قال أحد الناشرين للمؤلّف، سيكون ثمن هذا الكتاب 15.000 جنيه، فرد عليه الممثل (المؤلف) أن الحصول على المال لا يهمّه، وأن ما يعنيه أكثر هو إيصال الفكرة، معتقدًا أن الناشر يتحدّث عن دفع مستحقاته.
وإن كانت الصعوبة فيما مضى تتمثّل في إيجاد دار توافق على نشر الكتاب، فإن الرقمنة وانتشار استخدام الإنترنت زادا من حجم المشكلة، فسهولة ووفرة المؤلفات على الإنترنت، جعلت القراء يعزفون عن شراء الكتب. فمن ناحية لا يصرفون شيئًا ذا بال، خاصة مع خاصية تحميل المؤلفات مجانًا من مواقع التحميل المشروعة وغير المشروعة، ومن ناحية أخرى لا يحتاجون لرفوف كثيرة لرصّ الكتب، لأن الكتب الإلكترونية تحتاج لبضعة ميغابايتات في قرص التخزين لا غير.
في المقابل، يرفض أصحاب دور النشر لومهم وتحميلهم مسؤولية المعاناة التي يواجهها المؤلّفون. ويؤكّدون أنهم يسيرون مشاريع تجارية كغيرها، وأن الطباعة والعمال والعتاد تكلفهم أموالًا، يحتاجون لكسب عائد مادي لتسديدها. وهذا لخدمة الكتاب وإلا فإنهم سيتوقّفون جميعًا، وحينها لن يجد الكتّاب من ينشر مؤلفاتهم. فمثلما يكسب أصحاب شركات النقل أو المصانع عوائد مادية من أعمالهم وفقاً لمعايير اقتصادية، فإنهم يفضّلون الكتب والمواضيع التي تلاقي رواجًا لكسب عوائد مادية.
في السياق العربي، يأتي الردّ الأخير بالخصوص، دحضًا للاتهامات بتفضيل كتب تفسير الأحلام والطبخ، وكذا الكتب الدينية على غيرها من المطبوعات. هنا، تعمل بعض الدول على مساعدة النشر من خلال حث دور النشر العمومية على تحفيز طباعة الكتب وتعويضها عن الخسائر المالية. فعلى سبيل المثال تخصّص وزارات الثقافة في المغرب والجزائر والعربية السعودية ميزانيات معينة لنشر وطباعة كتب يتم إهداؤها مجانًا، بغرض تحفيز القراءة والترويج لمؤلفين وكتب معينة. أياً ما كانت النقائص في هذه المبادرات، لا سيما معايير اختيار الكتب، إلا أنها تعتبر خطوة أكثر من ضرورية لتلافي موت الكتاب.
لا ينطوي تراجع المطالعة على خطر انخفاض وقلة الوعي فحسب، بل إن الإنترنت سيصبح المصدر الرئيسي للمعلومات مستقبلًا وربما حتى العلوم والطب والتاريخ، خاصّة لدى الشباب. والإنترنت يعتبر مصدرًا لكل غث وسمين، فمثلما يحتوي على مراجع فريدة ومهمّة يمكن الحصول عليها بسهولة، فإنه يروّج أيضًا لكثير من المعلومات المغلوطة التي تؤدّي ربّما على المدى المتوسط إلى تنشئة جيل يبني وعيه على المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة، ولا شك أن الأزمات والحروب التي تشهدها المنطقة تؤكّد لنا هذا الواقع، إذ صار الإنترنت في آن واحد متنفسًا لحريّة الرأي ومصدر كل الدعايات.
فالكتب، وإن لم تكن تنطوي على معلومات دقيقة دائمًا، تتميّز بمصداقية أكبر كونها نتاجا لجهد فكري مراقب. ويمكن لهذه الأخيرة أن تشكل ثروة زخمة يمكن الحصول عليها ببضع نقرات عن طريق الرقمنة، ما يجعلها تتكامل مع المكاتب الرقمية، دون أن يؤدّي تفاعلهما إلى إحداث أي تنافس بين الكتاب الرقمي والكتاب المطبوع.
بين هذين الطرفين القريبين والبعيدين في آن واحد، يعاني التأليف من التراجع على الصعيد العالمي، وحتى قوانين حقوق التأليف العالمية على الإنترنت لم تنجح في الحد من هذا التقهقر. في فرنسا، نشر عدد من الأساتذة الجامعيين مؤخرًا بيانًا أكدوا فيه أن كثيرين سيتراجعون عن نشر أبحاثهم لأنها لم تعد تحقّق لهم عائدًا ماديًا بسبب الرقمنة والتحميل والنسخ غير الشرعيين، وأكثر من ذلك أنهم يضطرون للدفع من مالهم الخاص لنشرها. وأوضحوا أن ذلك يشكّل تهديدًا جديًا للنشر وحتى للبحث العلمي.