اللوحة، الحدث، التاريخ

28 أكتوبر 2014
دراويش المولوية
+ الخط -
ثمّة أحداث تصنع التاريخ، أو هي على الأقلّ تفتح له مساربَ ومسارات جديدة. وفي مجال الفنّ تكون هذه الأحداث من المفاجأة بحيث إنها تتركنا عرايا أمام أنفسنا وأمام تاريخنا الفنّي. ففي أبريل 2010 بيعت لوحة "الدراويش" (1929) للفنّان المصري محمود سعيد (1897-1964) عن طريق دار المزادات العالمية كريستيز بمبلغ 2.434 مليون دولار. وسُجلت عند لحظة بيعها كأغلى لوحةٍ رسمها فنّان شرقَ أوسطي. 
واليوم وقد صار السوق يصنع تاريخ الفنّ ويعيدُ ابتكاره، فإن هذا الحدث منح الفنّ العَربي مرئيّةً عاميةً visibility كان يحتاجها، مرئيّةً شبيهة إلى حدّ كبير بفوز نجيب محفوظ جائزةَ نوبل (1988)، وفوز الطاهر بن جلون جائزة الغونكور(1987). لكن، لنأخذ الحدث من جانبه الآخر، ولننظر في طبيعة هذا التتويج باعتباره يخصّ فنانًا عربيًا تشخيصيًا، ينتمي لبلادِ منكرةٍ للتشخيصِ والتجسيمِ والتشّبيه إن لم تكن محرّمةً له، استطاع دخولَ تاريخ الفنّ العالمي من بوابته الواسعة. فلوحات الجسد المجرَّد (العاري) لمحمود سعيد، الموجودة لحدّ اليوم في متحفه بالإسكندرية، تعدّ إحدى كنوز الفنّ العربي الحديث التي بها يمكن مضاهاة مثيلاتها في تاريخ الفنّ الغربي. 
وها إنّ الحدث الذي أشرنا إليه يشكّل بصورةٍ ما، دافعًا إلى إعادة قراءة تاريخنا الفنّي الحديث، وفقًا لمنظوٍر ينطلق من الآن إلى الجذور، لا تبعًا لتعاقبيّة تاريخيّة معينّة ظلّت مطبوعةً إلى حدّ كبير بتحوّلات الفكر العربي، واختياراته الإيديولوجية وتفضيلاته الجماليّة (غادامير). لا تُقاس أهمية محمود سعيد هنا، بالقيمة الماليّة لتلك اللوحة في سلم القيمة التداولية العالمية، بل بما تسلّطه على الفنّ العربي من أضواء مشعّة، ستدفعنا لا محالة إلى إعادة النظر في أسئلتنا الجماليّة والتاريخيّة، أي إلى إعادة ترتيب مواطن القوّة، بالنظر لا إلى سياق التجربة التاريخي، بل إلى تلقينا الحالي. ألم تتنبّأ مدرسة كونسطانس في ألمانيا نهاية القرن الماضي (ياوس وإيزر) بالتحوّلات الجديدة التي سوف يكون وراءها التلقي؟ ألم تقل لأوّل مرّة بأن قيمة عمل فنّي ما، تكمن في مجموع تلقياته التاريخية ومن ثمّ في أفقه التاريخي؟.
لنذكِّر بحكاية أخرى سابقة بكثير على لوحة سعيد، ومرّت من غير أن ننتبه لما تقترحه علينا من آفاق جديدة، لقراءة تاريخ الفنّ العربي وتأويله.ففي 1989، نظّم جان هوبرت مارتان، القيّم المعروف ومدير مركز جورج بومبيدو الشهير بباريس، معرضًا عالميًا حازَ صيتًا كبيرًا : "سَحَرة الأرض". وكان مفهوم المعرض يرتكز على إبراز التجارب الأكثر أصالةً وانزياحًا عن التجارب الغربية حينها. ومع أن الفنّان المغربي المرشّح آنذاك لتمثيل العرب في هذا المضمار، كان فريد بلكاهية اعتبارًا لعملِه المميّز على الجلدِ وبالمواد الصباغية الطبيعية، إلا أن القيّم اختار أعمال فنانٍ مغمورٍ، لا يكاد يعرفه أحد اسمه: بوجمعة الخُضر. كان يمتح عوالمه من الخُرافات والسّحر، ويمزج بين التقنيّات ويؤثّث الفضاء، ويتجاوز من البداية عالم اللوحة بتقاليده، ليزجَّ بتجربته في قلبِ المتخيّل الشعبي للممارسة الفنية في الفضاء. كانت أعماله مزيجًا من الاستعمالي والديزاين والاشتغال على المواد الصُلبة كالمعادن. 
توفي بوجمعة الخضر في نهاية السنة نفسها، في عزّ عطائه الفنّي، ليترك لنا تجربةً يمكن عدّها في تلك المرحلة، إضافةً غنيةً لما يمكن أن نسمّيه بالمؤشرات الخصبة للفنّ العربي المعاصر.
وإذا كان النّحت قد فتح الفنّ العربي على آفاق التجربة المُتصلة بالمواد والخامات، نحو الفضاء الخارجي، وتاليًا الحيّز العامّ، فإن ما يوجد هنا وهناك، في بلدان العالم العربي، خاصّةَ في مِصر ولبنان وسوريّا، يجعل الفنّ المكوِّن الأساس الذي يمنح الحيّز العامّ طبيعةً جديدةً وبعدًا بصريًا مغايرًا. لذا فإن كورنيش جدة، على سبيل المثال، وهو يزدان في السنوات الأخيرة بتلك المنحوتات التجرييدية لفنّانين عرب وعالميين شهيرين، صار يتنفّس هواءً جديدًا في قلب بلادٍ من أكثر البلدان محافظةً.
هكذا، فالفن العربي المعاصر، وهو يعيد استيحاء ما يوجد حوله من مواد، وما يختزنه من ذاكرةٍ ومتخيّل، لا يخلق فقط هوّيته البصريّة، بل يعيد تشكيل تاريخه الخاص، وفقًا لإيقاعٍ تميّزه وانفتاحه في الآن نفسه. فهو من ناحية، غير مدعوٍّ للانخراط في انقطاعاتٍ موهومةٍ، بل في المزاوجة بين القطع والوصل. وهو من ناحية ثانية، يُبلور ممكناته الجديدة فاتحًا عينيه على التأويلِ المستمّرِ لكافّة السجلات البصرية التي يزخر بها محيطه. من ثم فإن الفنّان المعاصر لا يمكن إلا أن يكون سياسيًّا بالضرورة، لا بالمعنى الحصري لكلمة السياسة، بل بمعنى حيازته على استراتيجية مفتوحة ومتواصلة مع مجريات اليومي.
هذا الهوس باليومي والاستعمالي والشخصي، هو ما يجعل تجربة الفنّان المعاصر تجربةً بلوريةً، ذات مكوّنات متعدّدة ومتنافرة، لا ترفض الأسندة المتداولة بقدر ما ترسكلتها (تعيد تدويرها)، كي تنفتح بشكلٍ كاملٍ على تفاصيل اليومي والقضايا الكبيرة في الآن نفسه. ففي الوقت الذي كان فيه الفنان الحديث يلجأ للأشكال وشعارية الألوان للانخراط في الحدث، صار بإمكانه تكثيفَ كلّ الممكنات من صوتٍ وصورةٍ وأرشيف. بل إن الأرشيف صار مكوّنًا أساسًا من مكوّنات الفنّ العربي المعاصر. وهو أمر صرنا نلاحظ تركيزَ الفنّانين الشباب عليه، بحيث إن كلّ المكوّنات الأرشيفية، صارت تشكّل ذاكرةَ حركية َحيّةَ تمنح الأعمال الفنية نسغًا جديدًا ونكهةً لا مثيل لها.
المساهمون