لا تبدو المقاربات الخارجيّة، في حالة النكوص العام، كافية لفهم الأسباب الدالّة، والظروف المؤديّة لتراجع اللغة العربيّة في بلاد لطالما شهدت صُنوفاً عديدة من الهيمنة والتبعيّة.
في منطقة الخليج العربي، تبدو المقاربات المحمولة على أسئلة الهويّة واللهجات المحكيّة وأثر كل منهما على اللغة أكثر رحابةً وتدقيقاً في ظلّ استقدام العمالة الآسيويّة الهائلة، واستجلاب المظاهر المدنيّة، والأنماط الغربيّة من العيش، التي تستدعي معها، بالضرورة، أيقوناتها الحضارية، وسلوكيّاتها الاجتماعيّة، على نحو لا يُغني الخاصّ أو المحلي، بقدر ما يطمس الهويّة البنيويّة للمكان.
في هذا السياق، واستناداً إلى ابن خلدون الذي يرى بأنَّ "مَلَكة العربيّة تُكتسب طبيعياً بالسَماع"، فإنّه نادراً ما نسمع العربيّة في المطاعم والمواصلات والأسواق التجاريّة والأبراج الخدميّة والشركات العاملة في الإعمار والاستثمار والتنمية. ذلك ما يُوسّع الفجوة الكبيرة بين المنطوق والمشاهَد؛ بين الأنا والآخر والمكان. في حين تُعمّق المحكيّة المستدخلة، البعيدة عن تأصيلها الفصيح، والمطعّمة بلغات أجنبيّة، كالهنديّة والبنغاليّة، حضورها في الحياة العامّة.
على المقلب الآخر، تنسحبُ الفصحى إلى اهتمامات ثقافيّة محدودة، تتخذ، في أحسن الأحوال، طابعاً احتفالياً في المواسم والمناسبات ومعارض الكتب، دون نقاش جذريّ يتناولها في سياق عولمة النظم والسياسات في الوقت الذي تنصرف فيه المجامع اللغوية إلى مشاغلها الأكاديميّة البحتة، وتنحسر الجهود المعجمية، لتبقى حبيسة الكتب، بلا أثر واضح، أو تأثير في الواقع.
تضاف إلى ذلك كلّه مناهج التعليم التي تنأى بنفسها عن الأزمة، إذ لم تعد قادرة على مراكمة الوعي المرتبط بكل ما يحيط بالبيت والمدرسة، ولا على استيعاب التحوّلات العميقة والمتسارعة، التي تدفعها، في أجواء كهذه، على تغليب الإنجليزية على العربيّة، وتمكين ناطحات السحاب من الرمل والشوك والماء.
أكثر من خمسة عقود مضت على قصيدة السيّاب التي وجد نفسه فيها "غريباً على الخليج" الذي يلتهمهُ، اليوم، الإسمنت الأفقي، كما تشغله هواجس الإقليم، وفوضى الأوطان المجاورة.
إنها غُربة نفسيّة مركّبة تُحيل إلى كساد الذهنيّة المعرفيّة التي تشكّل رافعة أساسيّة للغة، من جهة، وضعف النتاج الأدبيّ باعتباره رافداً أصيلاً من جهة ثانية. ذلك بالنظر إلى التراكم الزمنيّ للمفردة الفصيحة بوصفها كُتلة مرنة بعلاقتها مع الواقع؛ كُتلة مَوضوعةٌ في تكوينها الطبيعيّ، ومشتقّةٌ في توليدها الدائم.
أكثر من خمسة عقود، أيضاً، على نشوء الدولة الوطنيّة والقُطريّة، واللغة العربيّة ما تزال قاصرة عن استعادة دورها الحضاري الفعّال وسط رؤى تُعبّر عن كينونتها، كما تُشخّصها، بالكُليّة، وفقاً لثنائية: الهازم والمهزوم.
هكذا يغترب شطّ العرب، في زرقة مائه، وشقراء شمسه، وحرّ صحرائه، بينما يطلّ من خلفه "الرجل الأبيض": مُصفّي النفط، وراعي التكنولوجيا. إلى جانبهِ، ثمة المواطن العربيّ، مُستغرقاً ومُسترخياً في رفاهيّته الجاهزة.