لا يبدو أنّ النظام السوري يولي اهتماماً بملف اللجنة الدستورية المنوط بها وضع دستور دائم للبلاد تحت رعاية أممية، من المفترض أن تتم انتخابات وفقه، إذ أجرى انتخابات لما يسمّى بـ"مجلس الشعب" يوم الأحد الماضي، ضارباً بعرض الحائط كل قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالقضية السورية. ولكن المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، لم يفقد، كما يبدو، الأمل في دفع النظام، تحت ضغط دولي، إلى طاولة التفاوض مرة أخرى لتحقيق اختراق في الملف الدستوري يمكن أن يكون مدخلاً لتحقيق اختراق أكبر في الملف الأكثر تعقيداً وهو الانتقال السياسي الذي تنهض به هيئة حكم كاملة الصلاحيات تشرف على انتخابات برلمانية ورئاسية. وهو الملف الذي يحاول النظام تجاوزه قدر استطاعته، ما أدى إلى تعطّل الحلّ السياسي في سورية منذ منتصف عام 2012 الذي شهد ظهور بيان "جنيف 1" الذي حدد خارطة طريق الحل في سورية.
وأعلنت "هيئة التفاوض السورية" التابعة للمعارضة، مساء أول من أمس الثلاثاء، أنّ موعد الجولة الجديدة من المفاوضات مع النظام السوري، في إطار اللجنة السورية، سيكون في 24 أغسطس/آب المقبل في مدينة جنيف، وذلك بناء على دعوة من بيدرسون. وأشارت الهيئة إلى أنّ الرئيس المشترك للجنة الدستورية من جانب المعارضة هادي البحرة، تلقى اتصالاً من المبعوث الأممي، تطرّقا خلاله لأعمال اللجنة الدستورية ودعوتها للاجتماع. وأوضحت الهيئة أنّ بيدرسون ركّز في حديثه على أهمية أن تكون الدورة المقبلة من الاجتماعات إيجابية، وأن تسعى الأطراف كافة لتعويض الفترة الزمنية التي لم تتمكن من الاجتماع خلالها بسبب جائحة كورونا.
الجولة الجديدة من المفاوضات في إطار اللجنة السورية ستكون في 24 أغسطس/آب المقبل في جنيف
من جانبه، أكد البحرة "الحرص الدائم على الدفع قدماً بأعمال اللجنة الدستورية واستعداد ممثلي الهيئة في اللجنة للعمل المتواصل والمستمر بكل روح إيجابية، لإنهاء مهمتها التي تشكّلت من أجلها في أقصر وقت ممكن". وفي سياق متصل، أعلنت "هيئة التفاوض السورية" عن اتصال جرى بين رئيسها أنس العبدة، وبيدرسون، تمّ خلاله تبادل وجهات النظر حول تطبيق القرار الأممي 2254 (الذي تم تبنيه عام 2015 والمتعلّق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية) بكافة بنوده. وأكد العبدة دعم الهيئة للجهود التي يبذلها المبعوث الدولي في هذا الصدد، مشدداً على دعم الهيئة للجنة الدستورية في اجتماعها الشهر المقبل.
ومن غير الواضح بعد ما إذا سيكون الاجتماع بحضور أعضاء اللجنة الدستورية إلى مدينة جنيف، أم سيكون عبر دائرة تلفزيونية مغلقة. لكن مصدراً في هيئة التفاوض المعارضة قال لـ"العربي الجديد": "نسعى أن يكون فيزيائياً في حال سُمح بالسفر من وإلى مدينة جنيف".
وبدأت حكاية اللجنة الدستورية في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف والتي عقدت في فبراير/شباط 2017، عندما توصّل المبعوث الأممي السابق إلى سورية، ستفان دي ميستورا، إلى ما سمي بـ"السلال الأربع" التفاوضية ما بين النظام والمعارضة ومنها "القضايا المتعلقة بوضع جدول زمني لمسودة دستور جديد، مع الأمل في أن تتحقق في ستة أشهر". ولكن جهود دي ميستورا ذهبت أدراج الرياح بسبب رفض النظام تسهيل مهامه، إلى أن أقرّ مؤتمر عقد في سوتشي الروسية مطلع عام 2018، حضره ممثلون عن النظام وآخرون من منصات معارضة متباينة المواقف، مبدأ اللجنة الدستورية بتوافق الدول الضامنة (روسيا، تركيا، إيران)، وبقبول من مجموعة الدول الغربية مع الدول العربية، المسماة بالمجموعة المصغرة، وتضم: الولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، السعودية، مصر والأردن.
وبعد فشل النظام السوري في التهرب من هذا الاستحقاق، تحت ذرائع متعددة، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في سبتمبر/أيلول من عام 2019، تشكيل اللجنة الدستورية لسورية، والتي تتألف من هيئة موسعة (هدفها إقرار الدستور) من 150 عضواً؛ ثلثهم من النظام وثلثهم الآخر من المعارضة والثلث الأخير من المثقفين ومندوبي منظمات من المجتمع المدني السوري اختارتهم الأمم المتحدة من الطرفين (النظام والمعارضة). وانبثق من الهيئة الموسعة لجنة مصغرة (هدفها صياغة الدستور) من 45 عضواً بواقع 15 من كل مجموعة، تتخذ قراراتها بموافقة 75 في المائة من أعضائها، وبرئاسة مشتركة من النظام والمعارضة.
وعقدت اللجنة اجتماعها الأول في مدينة جنيف السويسرية في 30 أكتوبر/تشرين الأول من العام الفائت بسقف آمال منخفض، وبأجواء مشحونة بين الوفدين. وكرر الرئيس المشترك للجنة من جانب النظام أحمد الكزبري، ما ردده النظام طيلة سنوات الأزمة السورية، إذ قال في ختام الجولة الأولى: "سورية لديها دستور وبرلمان وجيش ومؤسسات". وحصر مهمة اللجنة الدستورية في إصلاح الدستور القائم (وضعه بشار الأسد في عام 2012)، مستبعداً التوصّل إلى أي نتيجة من شأنها أن تغيّر الوضع الراهن.
وعقدت الجولة الثانية من المباحثات في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الفائت، ولكن من دون تحقيق أي اختراق، إذ هيمنت خلافات جوهرية على المحادثات بعد أن حاول وفد النظام جرّ اللجنة إلى مناقشة قضايا ليست في صلب مهامها من قبيل مكافحة الإرهاب ورفع العقوبات عن النظام وإدانة ما وصفه بـ"الغزو التركي". وفشلت الجولة الثانية في تحقيق أي اختراق، إذ قال المبعوث الأممي في حينه: "اختتمنا الدورة الثانية للجنة الدستورية، ولم يكن من الممكن الدعوة إلى عقد اجتماع المجموعة المصغرة، لأنه لم يكن هناك اتفاق على جدول الأعمال".
وتحت ضغط إقليمي ودولي، وافقت المعارضة السورية على الانخراط في محادثات مع النظام حول الدستور، على الرغم من أنّ قرارات الأمم المتحدة تنصّ على إنجاز الانتقال السياسي أولاً. وترى المعارضة أنّ إعداد الدستور لوحده لا يحلّ الأزمة السورية، إذ لا يمكن الذهاب إلى الانتخابات من دون بيئة آمنة ومحايدة، تؤمنها هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات وفق الدستور الجديد.
الجباوي: المعارضة السورية مستعدة للعمل المتواصل والمستمرّ وبروح إيجابية لوضع دستور جديد للبلاد
من جانبه، عبّر المدير التنفيذي للمكتب الإعلامي في هيئة التفاوض، إبراهيم الجباوي، عن أمله في أن يكون المبعوث الأممي غير بيدرسون "قد تلقى تطمينات من الطرف الآخر (النظام) بأنه سيكون جدياً في الجولة المقبلة بعد أن تمّ التوافق على جدول الأعمال". وأشار في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ المعارضة السورية "مستعدة للعمل المتواصل والمستمرّ وبروح إيجابية لوضع دستور جديد للبلاد"، مضيفاً: "وفد المعارضة جاهز ليكون في حالة اجتماع دائم لإنهاء المهمة بأسرع وقت ممكن وبما يخدم مصالح الشعب السوري".
في المقابل، لا يبدو أنّ النظام يولي أهمية كبيرة للجنة الدستورية، إذ أجرى انتخابات نيابية أخيراً، ما يؤكد أنه سيحاول إغراق اللجنة الدستورية بـ"التفاصيل"، في محاولة لتعطيل عملها حتى منتصف العام المقبل، إذ من المفترض أن يجري النظام وقتها انتخابات رئاسية كي يبقى بشار الأسد في السلطة لسبعة أعوام أخرى، ما يعني تمييع القضية السورية بشكل كامل، إلا إذا كان للمجتمع الدولي توجه آخر.
ويصرّ النظام السوري على أنه لن يوافق على وضع دستور جديد كما تريد المعارضة، وأنّ مهمة اللجنة الدستورية هي تعديل دستور عام 2012 الذي يعطي منصب الرئيس صلاحيات مطلقة. في حين تصرّ المعارضة السورية على وضع دستور جديد يُستفتى عليه السوريون داخل البلاد وخارجها، وتقره هيئة حكم كاملة الصلاحيات، كما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة. من هنا، لا يرجح السوريون (المعارضون والموالون) أن تنجح اللجنة الدستورية في تحقيق إنجاز سياسي يمكن البناء عليه للتوصل إلى حلّ سياسي يمكن أن يبعد عن البلاد شبح التقسيم أو البقاء في الحالة الراهنة، إذ تحوّلت سورية إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية، في ظلّ واقع معيشي خانق خصوصاً في مناطق سيطرة النظام.