الكنيسة المعلّقة

18 نوفمبر 2014
+ الخط -
خبرٌ عاجلٌ تتناقله المحطات التلفزيونية، ها هو يمرّ أمامي أسفل الشاشة: "سقوطُ قذيفة صاروخية فوق قوسِ النصرِ الأثري في مدينة اللاذقية أحالته إلى ركام". 

لا.. لا تصدقوا. الخبر مجرّد تخييل؛ "يا شر روح لبعيد". مثلما ينهرُ أهلُ اللاذقية الكوابيسَ المخيفةَ التي باتتْ تتراءى لهم في نومِهم ويقظتهم على السواء. 

لا أحد يدري تمامًا من أين ولماذا أُطلقتْ الصورايخ القليلة على المدينة. قد اكتفتْ بالوقوع عند طرف ساحة الشيخ ضاهر التي يتوسّطها التمثال، وعند شارع السرايا الفرنسية القديمة التي صارتْ مقرّ قيادة الشرطة، فقتلتْ وجرحتْ عددًا من عابري المكان، في تلك اللحظة.

ثمّ بتنا نسمع أصواتها العميقة، وهي تقع على أطراف المدينة والقرى المحيطة، وتهدمُ ما تهدمُ، وتقتلُ من تقتل. ولليوم، -أدعو الله أبدًا- لم يحدثْ في اللاذقية ما يستدعي سقوط البراميل المتفجّرة وغيرها. 

في حمص وحلب ومدن سورية أخرى، ثمّة كنائس ومساجد وقلاع وأوابد أثرية تهدّمت وتحوّلت إلى كومٍ من الحجارة، فكيف إذن سينجو قوسُ نصر اللاذقية المتهالِك أصلًا من مصيرٍ مماثل؟ يقول سائق سيارة الأجرة: "حسناً.. ضع نفسك مكانهم، إذا تحصّنت فيه مجموعة من الإرهابيين، وراحوا يطلقون النار على الجنود والناس، ولا يوجد طريقة أخرى لمنعهم، سوى البراميل!؟ ماذا تفعل؟". لا جديد في هذا الكلام. 

في الثمانينيات عندما هبّ بعض شباب حيّ الصليبة، كما فعلوا أيام الاحتلال الفرنسي، وكتب عنهم وقرّظهم حنا مينة في روايته "المصابيح الزرق"، وأعلنوا العصيان على الدولة، كانَ الحيّ بأكمِله مهدّدًا بالاقتحام بالدبّابات، وتحويل بيوته الحجرية القديمة إلى تراب. تمّ تجنب الأمر آنذاك. وقامتْ البلدية بإعادة تنظيمه عُمرانيًا؛ بهدمِ أسواره وقناطره، ثمّ اختراقه من الجنوب إلى الشمال بشارعٍ عريضٍ تحفّ بجوانبه الأبنية الحديثة، التي وُزعتْ في البدء على مجموعةٍ متنوّعةٍ من الناس، سرعانَ ما آثروا تركَها وبيعها لسكانِ الحيّ الأصليين.

إلّا أنّ الشارع بات اسمه: "شارع الإسكان" تيمّنًا باسم المؤسسةِ الحكوميةِ التي قامتْ ببنائه، وكأنّ لا قيمةَ للأسماء عند أهل الصليبة، حسب ما يقول المؤرّخ اللاذقاني ياسر صاري. وربّما هناك تفسيرٌ آخر؛ أنهم متسامحون كفايةً ليسمّوا الشارع بهذا الاسم، هم الذين أبقوا اسم حيّهم "الصليبة" رغم التسمية الرسمية: "الأشرفية". 

ما زال أهل الصليبة يطلقون اسم "الكنيسة المعلّقة" على هذا المعلمِ الأثري الذي يقفُ على رأسِ حيّهم، أشبهَ بتاجٍ حجريّ كبير. لكنّه كانَ كنيسةً بالفعل. بُني القوسُ كبوابةٍ جنوبيةٍ للمدينة، احتفاءً بانتصار القائد الروماني "سبتيوس سفيروس" الذي انحازَ له أهلُ اللاذقية في نزاعه مع "سينيوس نيجر" على عرش روما عام 194 للميلاد.

وبعد ألف عامٍ تقريبًا، أقام الصليبيون بيوتهم ومساكنهم حوله، وبنوا مركز قيادتهم بالقرب منه، وسمّي الحيّ بـ "الصليبة"، بسبب الشارعين المتصالبين اللذين يلتقيان عند "قوس النصر"، أو الكنيسة المعلّقة. ربما تعود صفة "المعلقة" لعلوّ رقبته التي تزيدُ على 16 مترًا. لم أستطع إيجاد أي تفسيرٍ آخر.

ثمّ خلال الحقبة العثمانية الطويلة، أصبحَ القوس جامعًا، كما كان عند فتح اللاذقية من دون قتال من قبل المسلمين بقيادة عبادة بن الصامت ودخوله من بوابته، وإطلاق أوّل أذان من فوق قبّته بالذات عام 637 للميلاد، إلى أن جاءتْ فرنسا وأعادته لحلّته الأصلية، كأثرٍ تاريخي باتَ الرمز الأوّل لمدينة اللاذقية.

هناك معلوماتٌ كافية عن قوس النصر في الكتب وشبكة الإنترنت، لكن أن تقرأ عنه شيء، وأن تذهبَ وتقفَ تحتَ قبّته وتلمسَ حجارته وتنظرَ إلى التروسِ والخوذات والسيوف المحفورة عاليًا على عوارضه، شيءٌ آخر. حين عملتُ في الثمانينيّات دليلًا سياحيًا للمجموعات السوفييتية التي كانت تزور سورية، فعلتُ ذلك مرارًا. 

وها ذهبتُ من جديد وعدتُ من هناك لتوي، وقد راعني -وكأنّي أراه لأوّل مرة- علو قبّته وعمقها، ودقّة ترتيب حجارتها من الداخل، وضخامة أعمدته الدائرية الأربعة المكللة بتيجانٍ كبيرة، والمدعّمة بأربع زوايا حجرية عملاقة، ما يجعلُ محيط كلّ قائم من قوائمه الأربعة 14 مترًا! أنا نفسي لم أصدقْ إلا بعد أن قسته بعددِ خُطواتي التي بلغتْ العشرين. لا.. لا أظنّ قذيفةً صاروخيةً واحدة، قادرة على هدمِه، أشكر الله، وأشكر سفيروس. 

ترى كم من القادة، كم من الأبطال المظفرين، كم من شذّاذ الآفاق، كم من الناس العاديين، عبروا من تحت قبّته، ومن بين جدرانه، وكم من الأحداث والمصائر شهدتْ عليها أعمدته الأربعة؟ 

يؤكد "اللوادقة" أن مدينتهم ثاني المدن السورية التي قامت فيها المظاهرات الشعبية، بعد درعا.

فمن بوابة الصليبة بالذات، خرج الشباب بالآلاف يصيحون، ولا أحد يعلم من أين جاءهم هذا التعاطف. 

عند مدخل الحيّ، في المساحة التي يصنعها تقاطعُ شارع شكري القوتلي مع الشارع الذي ينتهي شرقًا بقوس النصر، جاء "اللوادقة" من مختلف أنحاء المدينة، ليس فقط من حيّ الصليبة وحيّ مشروع الصليبة، بل من أطراف المدينة والقرى المحيطة بها أيضًا. ليس هذا ادعاء، بل حقيقة يشهد عليها الكثيرون، كما يشهدون أنها لم تطلْ لتصيرَ ظاهرةً جامعةً، ذلك لأنّ أهل "الصليبة" بالذات، أناسٌ متشككون، يرتابون بمن لا يعرفونهم، إلى درجة أنهم كانوا يسألونك عن اسمك وحارتك.

جاءوا وبسطوا الحصر، وأقاموا المنصات، وفي أذهانهم شيءٌ كميدان التحرير في القاهرة. غير أنّ المعتصمين، وبسبب ما ذكرتُ عن أهل الصليبة بالذات، سرعان ما نقلوا حصرهم وخيمهم إلى مكانٍ آخر يبعد عشرات الأمتار، وهو ساحة التمرات، بالقرب من تقاطعٍ آخر لشارع القوتلي مع شارع بور سعيد الهابِط من الطابيّات إلى بوابة المرفأ، حيث انضمّ إليهم النساء والأطفال، وراحوا يغنّون ويدبكون ويطلقون الهتافات التي ارتفع سقفها لأوّل مرة إلى إسقاط النظام، رغم تحذيرات أصحاب العقول الراجحة. لكن، هيهات.

وعندما جاءتْ سيارة الإطفاء وربضتْ عند رأس الشارع، استقبلوها بالتهليل والضحكات، آملين أن يغتسلوا بمياهِها كما يرون في نشرات الأخبار المصورة. ثمّ انقض عليهم الأمن بالهراوات والرصاص عند الواحدة ليلًا. قامتْ هذه السيارة بما يبدو أنها أُحضرت لأجله، وفتحتْ فوّهات خراطيم مياهها القوّية لتنظيف الشارع من الدماء قبل أن تجف. 

لا ليس جهلًا، ولا عدم مبالاة، سمّى أهل اللاذقية قوس النصر هذا؛ الكنيسة المعلقة، فهي وهم والمدينة كلّها كانتْ منذ زمن وما زالت معلّقة على.. أمل.


المساهمون