الكل باطل وقبض الموج!

24 سبتمبر 2019
+ الخط -
كلٌ يغني على ليلاه، ولذلك لم أمنع نفسي وأنا أشاهد الأداء الرائع الذي قدمه النجم روبرت ريد فورد في فيلمه الجميل (الكل ضائع All is Lost) من الإعجاب بقدرته المدهشة على بذل كل ذلك المجهود البدني المضني، وقد كان وقت تصوير الفيلم في السابعة والسبعين من عمره، ولم أستطع منع نفسي أيضاً من الشعور بالأسى على الشيخوخة المبكرة التي تظهر أعراضها على كثير منا، ممن لم يبلغوا الثلاثين والأربعين في بلادنا العربية المبتلاة بالتلوث والعادات الصحية الخاطئة والتعامل مع الجسد على أنه ماكينة معدنية لن تبلى إذا ما استخدمناها أسوأ استخدام.

من أجمل ما في الفيلم أن أحداثه كلها تدور داخل مركب تائه في البحر لا يفارقه بطله أبدا، قصة الفيلم أكثر قتامة وغرابة من فيلم (حياة باي) الذي قدمه المخرج الشهير أنج لي عن رواية الكاتب الكندي يان مارتل الفائزة بجائزة بوكر، فالبطل الذي يكافح الغرق داخل مركب متهالك ثم داخل قارب نجاة مطاطي، لا يحمل معه مثل بطل فيلم (حياة باي) حيوانات هاربة من أقفاصها في السفينة الغارقة، ولا يبدأ رحلة مصارعته للأمواج بعد مضي وقت لا بأس به من الأحداث، بل يبدأها مع أول لقطة من لقطات الفيلم، والبطل هنا يظهر طيلة الفيلم بمفرده دون أن يكون بصحبته طاقم من البحارة مثلما حدث في فيلم (العاصفة الكاملة) الذي سبق أن قدمه جورج كلوني قبل سنوات، وتم اقتباسه عن كتاب ناجح يحكي قصة حقيقية، بل وليس لدينا هنا حتى كرة بيسبول يتخذ منها البطل صديقا له، كما فعل توم هانكس في فيلمه الشهير (كاست أواي)، ولا سمكة تقاسم البطل حكايته مثلما فعل الروائي الأميركي أرنست هيمنغواي في روايته الأشهر (العجوز والبحر).

رواية هيمنغواي بالمناسبة تلقي بظلالها على الفيلم خلال بداية مشاهدتك له، ولكن ذلك لا يستمر طويلا، فروبرت ريد فورد عجوز في السن فعلا، لكنك وبفضل أداءه المدهش لتفاصيل الفيلم الواقعية بشكل مذهل، ترى ما هو أبعد من قصة صراع فردي بين عجوز وبين البحر، وتشعر بصراع الإنسان في كل مراحله العمرية مع الحياة بكل أطوارها المختلفة وتقلباتها المهلكة ومفاجآتها التي لا تنقطع، صراع يعبر عنه ريد فورد بدون أن يلجأ إلى مونولوجات حوارية تعبر عن مشاعره، يؤديه فقط بأدائه البدني المضني وبتعبيرات وجهه المنضبطة الخالية من أي مبالغات، ومع ذلك فأنت لا تشعر طيلة مدة الفيلم البالغة ساعة ونصف بأي ملل أو افتقاد للحوار، بل تظل تتابع صراع البطل من أجل البقاء بمنتهى الشغف والترقب، ثم تخرج من الفيلم فتجد نفسك وأنت تفكر في صراعك الشخصي مع الحياة متمنيا أن تكون أكثر رفقا بك وأقل قسوة عليك.


على عكس عام 2014 الذي لم يشهد غير أداء باهت لروبرت ريدفورد في الجزء الأخير من فيلم (كابتن أميركا)، كان عام 2013 حافلا بالإنجاز لروبرت ريد فورد بعد حوالي ستة أعوام من الإبتعاد عن شاشة السينما، حيث شاهده جمهوره في فيلمين متميزين، عرض أولهما في شهر إبريل وهو فيلم (الصحبة التي تحتفظ بها) من إخراجه وبطولته مع النجم الشاب شيا لابوف وبصحبة نخبة من كبار النجوم الذين أدوا أدوارا صغيرة ومهمة، نتحدث عن أسماء من نوعية سوزان ساراندون ونيك نولتي وتيرانس هاوارد وجولي كريستي وكريس كوبر وستانلي توتشي وريتشارد جينكينز وبريندان جليسون، ومع ذلك لم يحقق الفيلم الإيرادات الكبيرة التي تتناسب مع وجود كل هؤلاء النجوم فيه، وظني أن ذلك حدث بسبب موضوعه الذي يحكي عن تداعيات فترة الستينات التي تحول فيها عدد من الناشطين السياسيين إلى طريق العنف المسلح وقام بعضهم بعمليات للسطو على البنوك لتمويل نشاطهم السياسي، أذكر أنني شاهدت الفيلم في إحدى قاعات سينما (لينكولن بلازا) التي تم إغلاقها للأسف مؤخراً، ولاحظت أن أغلب الجمهور الحاضر من فئة كبار السن الذين ارتبط شبابهم بروبرت ريد فورد منذ أن سطعت نجوميته في فيلم (المطاردة) عام 1966 ليحظى منذ تلك اللحظة بفرصة تقديم مجموعة من أهم أفلام السينما الأميركية.

في نهاية 2013، ومع عرض فيلمه الثاني لهذا العام (الكل ضائع) كان الأمر مختلفا، فقد حقق الفيلم خلال شهرين فقط أكثر من ستة ملايين دولارات، وكانت السينما التي شاهدت فيها الفيلم ممتلئة هذه المرة بجمهور من الشباب الذي أعجبته المغامرة الفنية الجريئة التي يقدمها الفيلم، وبرغم أن كثيرا من الشباب الأميركي من الطبقة المتوسطة لا يشكو من آفة غياب اللياقة البدنية، إلا أنه كان لافتا أن تسمع من الجمهور تعليقات إعجاب بقدرة روبرت ريد فورد على أداء مشاهد تتطلب مجهودا بدنيا خاصة تلك المشاهد التي يجاهد فيها لإنقاذ مركبه من الغرق بعد أن تعرض لخرق كبير جعل المياه تنهمر إلى داخله.

بالطبع، يعود الفضل في هذه المغامرة الفنية المدهشة إلى مخرج الفيلم وكاتبه أيضا جي سي شاندور الذي لم يقدم من قبل سوى فيلما واحدا هو "Margin Call"، لكنه أراد أن يكون فيلمه الثاني مختلفا تماما، ففي حين كان فيلمه الأول معتمدا بشكل كامل على الحوار الذي يحكي تفاصيل المصاعب التي تعرض لها أبطاله العاملين في دنيا البيزنس مع بدايات الأزمة الإقتصادية العالمية الأخيرة، فقد خلا فيلمه مع روبرت ريدفورد من الحوار تماما، وفي حين قرر شاندور أن يستعين لتمرير مضمون فيلمه الأول ـ الذي يحمل قدرا من التعقيد قد لا يستسيغه المشاهد العادي ـ بنجوم من طراز كيفن سبيسي وديمي مور وجيريمي أيرونز وبول بيتاني وستانلي توتشي، فقد خاض المغامرة الثانية مراهنا على ريدفورد منفردا، ليكسب الرهان بجدارة، حيث لم يحقق الفيلم فقط نجاحا تجاريا، بل وحظي بسيل من المقالات النقدية المغرمة به، وبترشيحين في جوائز الجولدن جلوب من بينها جائزة أحسن ممثل لروبرت ريدفورد الذي حصل من قبل على أوسكار أحسن مخرج، لكنه لم يحصل حتى الآن على أوسكار أحسن ممثل برغم كل الأفلام الرائعة التي قدمها بما فيها هذا الفيلم، فقد ذهبت الجائزة ذلك العام عن جدارة للممثل ماثيو ماكناوهي عن دوره في فيلم (نادي مشتري دالاس)، وإن كان الأجدر بها في رأيي هو شيوتيل إيجيفور بطل فيلم (12 عاما من العبودية) الذي قدم أداءا خارقا بكل للكلمة من معنى.


خطرت فكرة فيلم (الكل ضائع) لمخرجه عندما كان يركب قطارا متجها إلى نيويورك، وعند مروره بمحاذاة الساحل الشرقي الأميركي رأى مراكب الصيد الراسية في موانئها، هربا من تقلبات البحر في الشتاء، فعاد بذهنه إلى ما كان يسمعه من مغامرات والديه في البحر بعد زواجهما، وتذكر تجربته لعدة مواسم صيفية كمدرب للمراكب الشراعية في رود آيلاند، لكن الفيلم جاء ليحمل مضمونا أكثر حزنا وعمقا، حيث قرر شاندور أن يكتب قصة عن البحر تحكي عن علاقة الإنسان مع الموت، فقد كان لا يزال في ذلك الوقت يعيش تحت وطأة أحزانه من جراء فقد جدته لأمه وجدته لأبيه في نفس الوقت، ولذلك قرر أن يحمل المركب الذي يصارع الموج لفترة طويلة في الفيلم اسميهما معا "فرجينيا جين".

أما قراره الجرئ بإخراج الفيلم دون حوار، فقد جاءه عقب مصادفة غريبة جدا، حدثت عندما ذهب شاندور ليعرض فيلمه الأول في مهرجان صاندينس للأفلام المستقلة الذي أسسه ريدفورد منذ سنوات وأصبح أشهر مهرجان للأفلام المستقلة في العالم، ومقصدا لكل أصحاب التجارب الفنية المختلفة، وخلال غداء تم عقده للمشاركين في المهرجان، وقف ريدفورد ليلقي كلمة، فتعطل الميكروفون للحظات دون أن يدرك ريدفورد ذلك ليستمر في الكلام دون أن يسمعه أحد، لتقفز فجأة إلى ذهن شاندور فكرة صناعة فيلم دون حوار، لأنه أعجب بفكرة أن تسلب ممثلا محبوبا من أداة صوته المحبوب للجمهور، وتراقب ما الذي سيمكنه فعله بعد ذلك.

الفكرة صعقت ريدفورد عندما سمعها، وما أدهشه أكثر أن تلك المرة كانت الأولى طيلة ثلاثين عاما من دعمه للفنانين الجدد التي يأتي فيها مخرج شاب إلى مهرجان صاندانس ليعرض عليه فيلما، "ربما لأنهم كانوا يظنون دائما أنني أكبر من ذلك"، حسب تفسيره، وبرغم إدراكه لصعوبة الفكرة التي يحملها السيناريو المكون من 37 صفحة فقط بسبب خلوه من الحوار،إلا أنه عندما لمس اهتمام شاندور الشديد بالتفاصيل قرر أن يخوض المغامرة ويسلم نفسه له.

لم يجد شاندور صعوبة في عرض المشاهد التي تتطلب أداءا بدنيا قويا على ريدفورد، فقد فوجئ بحفاظ ريدفورد على لياقته البدنية بفضل ممارسته المنتظمة للتنس والتزلج وركوب الخيل والمشي والسباحة، وبرغم أن خطة شاندور لتنفيذ الفيلم باستخدام دوبلير حرصا على سلامة ريدفورد خصوصا أن جزءا من المشاهد تم تصويره في المحيط الهادي حول لوس أنجلوس، بالإضافة إلى تصوير دام لمدة ثلاثة اشهر في المكسيك في أحواض المياه العملاقة التي صور فيها جيمس كاميرون فيلمه الأشهر (تايتانيك)، إلا أنه فوجئ بحماس ريدفورد لأداء جميع المشاهد بنفسه، قائلا لشاندور إن تقطيع المشاهد بينه وبين الدوبلير سيفقد الفيلم روحه التي يجب أن تصل إلى المشاهد كاملة، وبرغم أن فريق العمل اتبع كل الإحتياطات اللازمة إلا أن المشاهد التي كان ريدفورد يتعرض فيها للرش بخراطيم مياه عملاقة يفترض أن تحدث نفس تأثير ضرب الأمواج له تسببت له في الإصابة بعدوى في أذنه اليسرى كلفته ستين في المائة من قدرته على السمع بها.

يقول روبرت ريد فورد إن ما جعله ينجذب إلى قصة الفيلم هو تفكير كان يشغله دائما عما يجعل بعض البشر يصلون إلى نقطة الانهيار فور تعرضهم لسلسلة من مصاعب الحياة، بينما يواصل البعض المقاومة حتى لو بدا لهم أن الأحوال لن تنصلح قريبا، وأن الفيلم ذكره بقصة كفاح فردية مع مصاعب الحياة ولكن هذه المرة داخل الجبال كان قد قدمها عام 1972 من خلال فيلمه الشهير (جرمايا جونسون)، قائلا في حوار مع صحيفة "نيويورك تايمز" إنه لم يفكر أثناء أدائه للفيلم في أي رموز تسعى القصة لإيصالها، بل تعامل مع البطل فقط بوصفه قطعة بلاستيكية تم إلقاؤها في المحيط وعليها أن تبقى على قيد الحياة.

وبرغم أن الإجابة لا تبدو شاعرية لمن مس الفيلم مشاعره، إلا أنك عندما تقرأ عن علاقة ريدفورد بالشعر، تدرك أنه حتى لو لم يفكر في الفيلم بشكل شاعري، فإن علاقته الوثيقة بالشعر جعلت أداءه في الفيلم يظهر كأنه قصيدة بصرية عن علاقة الإنسان بالحياة. عندما يُسأل ريدفورد في حواراته الصحفية عن علاقته بالشعر يتحدث فورا عن شاعره المفضل ييتس الذي يعتبر أن شعره ساعده على التعاطي مع فكرة الشيخوخة، خصوصا عندما تحدث عن "الروح التي تعلو فوق القلب المثبت في جسد قابل للموت"، لكن حوارا أجراه ريدفورد مع صحيفة (نيويورك تايمز) كشف لنا أنه ليس فقط متذوق للشعر، بل أنه يكتبه أيضا، حيث قرأ مجموعة من أبيات كتبها في دفتر يصطحبه معه دائما، سأحاول أن أجتهد في ترجمتها لأنها جعلتني أشعر أنه كتبها بوحي من أدائه لشخصية البحار العجوز في فيلمه.

تقول أبيات روبرت ريدفورد: "تنظر فتدرك.. كم هو يوم جميل.. تتمايل أوراق الشجر.. فتبدأ تشعر بالثقة في نفسك.. تشعر أنك ممتلئ بذاتك حتى تدرك فجأة أنك غير قادر على التحكم في لعابك"، بالقطع لو ترجمت الجملة الأخيرة إلى العامية المصرية لكانت كالآتي: "حتى تدرك أنك بتريِّل على روحك"، ولكان ذلك أوقع في إيصال المعنى الذي يقصده ريدفورد، على أية حال ليغفر لي مترجمو الشعر تطفلي على عالمهم، متمنيا لهم أن يجدوا تعبيرا ألطف في إيصال ما أراد ريدفورد أن يكثف به قسوة الحياة كما يراها، وإن كان قد فعل ذلك في كل مشاهد فيلمه المدهش دون أن يحتاج أبدا إلى كلمات يتوه معناها في الترجمة.

عند خروجي من السينما مشحونا بما أثاره بداخلي من أفكار مثيرة للشجن، أخذت أردد رباعية رائعة كتبها الفنان المصري الأجمل صلاح جاهين قال فيها:

"بحر الحياة مليان بغرقى الحياة..
صرخت خشّ الموج في حلقي ملاه..
قارب نجاة يا خلق قالوا ما فيش..
غير هو بس الحب قارب نجاة".

قلت لنفسي: ربما لو كان قد ترجم مترجم ذكي القلب تلك الرباعية لروبرت ريدفورد وجي سي شاندور لربما جعلوها مفتتحا لفيلمهم الذي لا يحدثك عن أهمية الحب مطلقا، لكنه يجعلك تخرج منه بيقين لا يتزعزع أن الكل باطل وقبض الموج، وأن الحب هو وحده ما يستحق أن نقاوم الغرق في بحر الحياة المليء بالمفاجآت المهلكة، نجانا الله منها وإياكم.

.....

فصل من كتابي (من صندوق الدنيا) يصدر قريباً عن دار المشرق بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.