-1-
هتف السائرون باتجاه الشرفة العالية: فليسقط واحد من فوق!!
وكان ذاك عن خطأ غير مقصود، في تبيّن الهدف من تلك المسيرة الرسمية، التي نظمتها السلطة المنبثقة عن نفسها، والتي سيق إليها القرويون بعد فوات أوان الواقعة الإمبريالية بعقود، حينما وعد وزير الخارجية والمستعمرات البريطانية اللورد آرثر بلفور، الجماعات اليهودية بوطن قومي للحركة الصهيونية، على أرض لها شعبها المتأصل، والمغروس في جغرافية بلاد الشام، بتاريخه ولغته وعاداته وأديانه.
هتفوا بصوت واحد، بعد ترجلهم من خلف المقطورة التي يسحبها الجرار الزراعي، وقفزهم من فوق طرفي سوريها العاليين، ونفضهم ما توهموه غباراً عالقاً بجلابيبهم، معدلين انزلاق كوفياتهم وميلان عقالاتهم، ممتطين ظهور بعضهم، ورافعين قبضاتهم إلى الأعلى، حاملين عيداناً من أغصان أشجار حور كشط لحاؤها، وثبتت أعلاها لافتات من الورق المقوى بمسامير من حديد ليّن، جهلوا ما كتب فوقها، تشير بعض كلماتها إلى تربص أعداء من فولاذ بالشعب والأمة، وبعضها الآخر إلى أهداف من ورق. لم يتوقفوا عن ترديد هذا الشعار وغيره، وهم ماضون في طريقهم الطويل نحو الشرفة، التي يقف عليها رجالات الدولة، الذين ظهروا، وهم متلاصقون فوق طنفها الضيق، بهيئة فرقة دبكة متجمدة.
وكانوا قد لقنوا قبلها بساعات بهتاف: فليسقط وعد بلفور!!
لكنه ضاع أو نسي، في هذا الشرط السلطوي، الذي يصنع الاهتياج الموسمي ليُذّكر في العلن، ما يعمل في الخفاء على نسيانه، وربما لاستعجال رجالات الدولة الصغار وهم يضعون الكلام الثقيل في أفواه العامة، لا لتشجيعهم على لفظه بل لإرضاء مسؤوليهم الأكبر، ولعدم إحسان لفظ الأسماء الفرنجية، ولأسباب أخرى عديدة، منها جدوى المسيرات التي يُحمل المتظاهرون فيها من قراهم البعيدة على مقطورات تجرها الجرارات، وشاحنات نقل المواشي والمحاصيل الزراعية، ويُوعدون همساً، أن تكون لهم في نهايتها جولة مجانية في المدينة الجميلة، يتجرعون أثناءها "كازوزة" ويقضمون لفافة "كباب"، كمكافأة مستحقة لجهدهم الوطني العالي، وكان قد اعتبرها الكثيرون منهم "شمة هوا" وهو تعبير تخص به الرحلات الربيعية والنزهات إلى البساتين، التي كانت تلاصق المدن.
-2-
لا يُعرف كيف تتحول المسيرات إلى مهرجان للغناء والرقص، ربما لضياع أهدافها وغموضها في آن، حيث باتت كل مجموعة من المتظاهرين تغني وفق ما يمليه عليها مزاجها، بعضهم من رفع عقاله ودار حول نفسه، في رقص لا توحي به المناسبة المسترجعة بعجالة، ومجموعة تحلقت حول سبيل ماء، لتطفئ عطشها، ومجموعة توزعت على مداخل العمارات التي تطل على الساحة، بعدما انهكها السفر والوقوف الطويل.
لا تعرف الغاية من "تصنيع التظاهرات" أهي وسائل لتذكر السلطة الحاكمة بنفسها، وتمتحن قوتها وجهوزيتها.. أم رسائل لمن يحتجون بهمس خفيف، وقليل من الكلام والبيانات، على مسارها السياسي الذي أجهز على الحركة السياسية، وحول ما بقي منها إلى ما يشبه الدمى، وتطل من وقت لآخر على المسرح المسمى باسمها.
وما التظاهر، إلا فعل احتجاجي عن وضع معاشي، سياسي، وطني، حالة تضمر مقدرة تعبوية، وفرصة لاختبار القوة الشعبية المنظمة، ومقدرتها للوصول إلى ما بعد التظاهرة كالإضراب العام والعصيان المدني.
ويمكن قراءتها (تنظيمها -شعاراتها- حدود قوتها- مقدراتها على التكرار-)، لكن بماذا يمكن قراءة المسيرة التي تحركها وتحدد شعاراتها، وخط سيرها أجهزة المخابرات، وتسيرها وفق الأنظمة الداخلية للنوادي الرياضية وفرق الكشافة، تهيجها عندما ترغب الهياج، وتخمدها عندما ترغب الخمود، وتذوبها كملح في مياه الشوارع حين تنتهي مهمتها.
لكن، هناك من هتف في النهاية، وهو يصعد المقطورة المعدنية الطويلة، التي يجرّها الجرار الزراعي، ويتهيأ للعودة إلى قريته: فليسقط الاستعمال!!
لم تسعفه على النطق السليم اختلالات مخارج الحروف، والتواءات اللسان وحشرجاته، وذاك الإفراط في استخدام حشد ثقيل من المفردات ذات الملمس الخشن، لربما كان يقصد: فليسقط الاستعمار!!
-3-
رغم الطقس الماطر، وصلوا إلى الساحة الكبيرة للمدينة، التي توسعت وباتت أكثر قدرة على إرباك الوافدين إليها، بشوارعها العريضة، وأرصفتها الواسعة الممتدة، واللوحات الإعلانية العالية، والصور الثقيلة المنسدلة على واجهة العمارات.
نزلوا تباعاً من الحافلات، أغلبهم بأزياء حديثة بنطال وسترة بألوان قاتمة، تحلقوا حول الحافلة منتظرين الرجل الذي ترجل من سيارة يابانية سوداء، ليحدد لهم ما يجب فعله، تقاسموا اللافتات المفردة، وتهيأ الآخرون لحمل اللافتات التي يقارب عرضها عرض الشارع.قال لهم: إنه يوم للفرح... لا يجب أن تفرحوا فحسب، بل يجب أن يرى كل العالم فرحكم.
لم يعرف أحد من الذي أوحى له بهذه العبارة، أم أنها إنبثاق حار من عصر مضى، إلا انه قال بصوت هادر: نهر الأردن ما بيتحمّل!!
ربما قصد تلك العبارة الهادرة: نهر الأردن ما بيتحوّل!!
-4-
ما لم يخطر في بال أحد، حتى في تهويمات الحمى، التي تأتي للشعوب المغلوبة، على شكل موجات نارية، أن تلصق تهمة قبض خمسمائة ليرة، يجري دسها في لفافة فلافل، يأخذها المتظاهرون، قبل الانطلاق للتظاهر، لا بعد الانتهاء منه، وهي تهمة بثقل وأوجاع إهانة الكرامة الشخصية، ومن أطلقوها لا يجهلون الثمن الحقيقي لأي احتجاج علني، في بلدان قوانين الطوارئ والأحكام العرفية..... قد يدفع المتظاهر حياته ثمناً لحرية إرادته وخياراته، مجللاً بغيوم من الهتافات العالية، ناسياً لفافة الفلافل وشربة الماء، متجاهلاً إن كان أحد تسلل إلى قربه، ومد يده لجيبه، وسرق مصروفه، أو هاتفه المحمول، أو بطاقته الشخصية. أو إن وقف أحد أمامه، والتقط له صوراً لتوثيق جرمه، أو من قرر أخيراً، طعن خاصرته بسكين، بعدما ضاق بهذه النداءات، التي ذكرته بألفة العبودية.
حلب/ حزيران 2016