ينتعش الكتاب في زمن ازدهار اللغة، وفي مرحلة تطور الدلالة والمدلول. والكاتب، أو المبدع بالدرجة الأولى، هو مصدر هذا الانتعاش، والمولّد الحقيقي للدلالة وللغة. لا شك في أن للقارئ دوره الراجح، لكن الكاتب تعرّض لتحوّلات أعطت لكتابته مضامين وأبعادا جديدة. وبغضّ النظر عن تاريخية مفهوم الكاتب عندنا في العالم العربي، وحجم حضوره وتأثيره في التاريخ الثقافي، فإنه يتحرك، في واقع الأمر، داخل سياق للثقافة التقليدية والفقهية "الغلبة والسطوة"؛ وتنامى الشعور بهذه الغلبة مع استيلاء الإسلام السياسي، بكل أطيافه بما فيها التكفيرية، على الخطاب والتداول. ومع ذلك نلحظ بأن الكاتب، بالمعنى العصري، صارع وما يزال يصارع من أجل انتزاع "شرعية" دوره الثقافي والاجتماعي. وهذه نقطة لا يمكن إغفالها عند تناول موضوع الكتاب والرأي العام.
فالكاتب العربي، بوصفه منتميًا إلى جماعة وطنية أو قومية، له حقوق وعليه واجبات. وإذا كان الحق مطلبا مشروعا إزاء فاعلين آخرين، أو جماعة سياسية، أو مهنية محددة، فإن الواجب يتمثل في ضرورة الاستجابة لانتظارات ومطالب اجتماعية مشروعة هي بدورها. وفي ضوء هذه الاعتبارات التي تتخذ، في كل مرة، مضامين وأبعادا مغايرة، يجد الكاتب نفسه في معمعة تحولات هائلة لا يملك إزاءها إلا ما يحوز من قدرة على الحدس والتعبير وخلق المعنى.
فالسياق الاقتصادي الاستهلاكي يجرف أكثر القيم مناعة وصلابة. ويعيش العالم، رقميا، من أكثر الثورات جذرية في التعامل مع الزمن، والمكان، والرموز، والإنتاج التي شهدتها الإنسانية؛ فضلا عن التوسع الكاسح لوسائط الاتصال السمعي-البصري وتأثيرها على عملية إدراك موقع الكاتب في المجتمع ودوره في التوعية والارتقاء بالذوق، لاسيما أن الثقافة "الجماهيرية" الجديدة، وبالخصوص في وسائل التواصل الاجتماعي، ليست دائمًا شخصية، لأن نسبة لا بأس بها مما ينشر فيها من إنتاجات تكون مجهولة، أو ملتبسة التوقيع.
فكيف، إذن، يمكن للكاتب أن يولّد اللغة المناسبة، أو اللغات المناسبة للتعبير عن هذه التحولات وبواسطة إحدى أدوات هذه التحولات ذاتها؟ كيف للكاتب، من خلال معانيه وشخصياته، ومجازاته، وأشكاله، أن ينتج قراءً، أو "رأيًا عامّا" يحضنه ويعمل على إعادة إنتاج وجوده في اتجاه التجدد والتطور؟ وإذا كان الكتاب يزدهر بازدهار اللغة ويسهم في تجديدها، فهل يمكن أن نعتبر أن انسداد وضعية الكتاب الثقافي العربي الحالية مؤشر على قصور الكاتب العربي عن نحت لغات تتساوق مع هذه التحولات الجديدة؟
لعل كل أنماط الإنتاج الثقافية، في الماضي والحاضر، تستدعي تطويرها وتأطيرها، وخلق فرص ازدهارها. لاشك في أن أولويات بعينها تفرض ذاتها في وقت من الأوقات، لكن القرار السياسي المبدئي بوضع خطط شاملة للنهوض بحقول الإبداع والثقافة، وتوفير الوسائل المادية الضرورية لإنجازها ما يزال قرارا لم يتبلور بعد. ومن ناحية أخرى، يبدو أن مقولة "الرأي العام" تشوبها كثير من أشكال الالتباس. وفاقمت المواقع الاجتماعية هذا الالتباس بحيث يحصل خلط بين الرأي العام، والجمهور، والجماهير؛ إذ نجد خطابات تصوغ مواقفها من خلال التحدث باسم الآخرين. وتتمثل خطورة هذا الخلط في كونه يبني موقفًا بكامله باسم الجمهور الواسع في الوقت الذي لا يستمد عناصره إلا من آراء وردود أفعال بعض الأفراد القلائل.
وبصفة عامة، فإن الرأي العام هو قوة اجتماعية تتولّد عن تشابه في الأحكام والمواقف إزاء موضوعات محددة بواسطة جماعة تعبّر عن آرائها عندما تتوفر لديها شروط الوعي بالذات، وبحكم كونها قوة اجتماعية، فإن هذا الرأي يصبح غالبا، خصوصا حين يتخذ طابعًا سياسيًا. وفي كل الأحوال، فإن كل حديث عن الرأي العام يفترض مراعاة القاعدة الاجتماعية التي يتكوّن داخلها، والتمييز بين ما هو رأي عام وما يندرج ضمن الآراء الخاصة.
اعتبارًا لِما تقدّم هل يمكن الحديث عن تشكُّل رأي عام عربي في الشروط الراهنة؟ إلى أي حد ساهم الكتاب العربي -والكتّاب العرب- في بلورة مقومات الرأي، وإنتاج المعنى، وتغذية الذوق، وإثراء المعرفة؟ وما هو مستقبل الكتاب في ضوء التحديات السمعية البصرية والرقمية الكاسحة، وفي سياق انحسار القرار السياسي العربي؟
أسئلة كبرى لا يمكن إغفالها حين يتطلع المرء إلى تقديم فهم معقول للكتاب، والمعنى والرأي العام.
(مفكر مغربي)
القراءة والكِتاب والنهضة
بين الصورة و ..."لا ديّة ليد لا تكتب"
فالكاتب العربي، بوصفه منتميًا إلى جماعة وطنية أو قومية، له حقوق وعليه واجبات. وإذا كان الحق مطلبا مشروعا إزاء فاعلين آخرين، أو جماعة سياسية، أو مهنية محددة، فإن الواجب يتمثل في ضرورة الاستجابة لانتظارات ومطالب اجتماعية مشروعة هي بدورها. وفي ضوء هذه الاعتبارات التي تتخذ، في كل مرة، مضامين وأبعادا مغايرة، يجد الكاتب نفسه في معمعة تحولات هائلة لا يملك إزاءها إلا ما يحوز من قدرة على الحدس والتعبير وخلق المعنى.
فالسياق الاقتصادي الاستهلاكي يجرف أكثر القيم مناعة وصلابة. ويعيش العالم، رقميا، من أكثر الثورات جذرية في التعامل مع الزمن، والمكان، والرموز، والإنتاج التي شهدتها الإنسانية؛ فضلا عن التوسع الكاسح لوسائط الاتصال السمعي-البصري وتأثيرها على عملية إدراك موقع الكاتب في المجتمع ودوره في التوعية والارتقاء بالذوق، لاسيما أن الثقافة "الجماهيرية" الجديدة، وبالخصوص في وسائل التواصل الاجتماعي، ليست دائمًا شخصية، لأن نسبة لا بأس بها مما ينشر فيها من إنتاجات تكون مجهولة، أو ملتبسة التوقيع.
فكيف، إذن، يمكن للكاتب أن يولّد اللغة المناسبة، أو اللغات المناسبة للتعبير عن هذه التحولات وبواسطة إحدى أدوات هذه التحولات ذاتها؟ كيف للكاتب، من خلال معانيه وشخصياته، ومجازاته، وأشكاله، أن ينتج قراءً، أو "رأيًا عامّا" يحضنه ويعمل على إعادة إنتاج وجوده في اتجاه التجدد والتطور؟ وإذا كان الكتاب يزدهر بازدهار اللغة ويسهم في تجديدها، فهل يمكن أن نعتبر أن انسداد وضعية الكتاب الثقافي العربي الحالية مؤشر على قصور الكاتب العربي عن نحت لغات تتساوق مع هذه التحولات الجديدة؟
لعل كل أنماط الإنتاج الثقافية، في الماضي والحاضر، تستدعي تطويرها وتأطيرها، وخلق فرص ازدهارها. لاشك في أن أولويات بعينها تفرض ذاتها في وقت من الأوقات، لكن القرار السياسي المبدئي بوضع خطط شاملة للنهوض بحقول الإبداع والثقافة، وتوفير الوسائل المادية الضرورية لإنجازها ما يزال قرارا لم يتبلور بعد. ومن ناحية أخرى، يبدو أن مقولة "الرأي العام" تشوبها كثير من أشكال الالتباس. وفاقمت المواقع الاجتماعية هذا الالتباس بحيث يحصل خلط بين الرأي العام، والجمهور، والجماهير؛ إذ نجد خطابات تصوغ مواقفها من خلال التحدث باسم الآخرين. وتتمثل خطورة هذا الخلط في كونه يبني موقفًا بكامله باسم الجمهور الواسع في الوقت الذي لا يستمد عناصره إلا من آراء وردود أفعال بعض الأفراد القلائل.
وبصفة عامة، فإن الرأي العام هو قوة اجتماعية تتولّد عن تشابه في الأحكام والمواقف إزاء موضوعات محددة بواسطة جماعة تعبّر عن آرائها عندما تتوفر لديها شروط الوعي بالذات، وبحكم كونها قوة اجتماعية، فإن هذا الرأي يصبح غالبا، خصوصا حين يتخذ طابعًا سياسيًا. وفي كل الأحوال، فإن كل حديث عن الرأي العام يفترض مراعاة القاعدة الاجتماعية التي يتكوّن داخلها، والتمييز بين ما هو رأي عام وما يندرج ضمن الآراء الخاصة.
اعتبارًا لِما تقدّم هل يمكن الحديث عن تشكُّل رأي عام عربي في الشروط الراهنة؟ إلى أي حد ساهم الكتاب العربي -والكتّاب العرب- في بلورة مقومات الرأي، وإنتاج المعنى، وتغذية الذوق، وإثراء المعرفة؟ وما هو مستقبل الكتاب في ضوء التحديات السمعية البصرية والرقمية الكاسحة، وفي سياق انحسار القرار السياسي العربي؟
أسئلة كبرى لا يمكن إغفالها حين يتطلع المرء إلى تقديم فهم معقول للكتاب، والمعنى والرأي العام.
(مفكر مغربي)
القراءة والكِتاب والنهضة
بين الصورة و ..."لا ديّة ليد لا تكتب"