القضية لم تسقط سهواً

02 مايو 2016
لاجئة فلسطينية سورية في لارنكا، 2015 (تصوير: إياكوفوس هاستيستافرو)
+ الخط -

بدا الربيع العربي كأنه إنقاذ للقضية الفسطينية رغم محليّة حراكه وشعارته. كنا نفهم القضيّة، قبل هبوب الربيع العربي، باعتبارها بنيوية في الحياة العربية، المصرية والمشرقية على وجه الخصوص، فهي تسكن، بهذا المعنى، أيَّ إرادة تصبو للتغيير.

لم يقم نظام في هذه المنطقة، ولم تؤلف حكومة، من دون أن يكون في بلاغه الأول، أو بيان تكليفها شيء من "القضية المركزية"، أو عنها. منذ النكبة وفلسطين في قلب الحراك السياسي المشرقي. ففلسطين ليست قضية عادلة في إفريقيا، أو أميركا اللاتينية.

إنها جزء لا يتجزأ من الجغرافيا الاجتماعية والسياسية للمنطقة. ذات يوم قال حافظ الأسد لياسر عرفات، نكايةً واستفزازاً، إنَّ فلسطين جنوبي سورية، فردَّ عليه عرفات، بما لا يقلّ استفزازاً، بل سورية شمال فلسطين. بصرف النظر عن المناكفة بين الرجلين، بل بصرف النظر عن قناعات عرفات "الاستقلالية" الفلسطينية، و"وحدوية" حافظ الأسد، اللفظية، فالرأيان صحيحان.

وهما يختصران واقع فلسطين التي يمكن أن تكون جنوبي سورية، أو شرقي الأردن، شمالي شرق مصر، وجنوبي لبنان. وعلى بعد مدى الصوت من أرض الحجاز، وها هي قضية جزيرتي صنافير وتيران تشهد على ذلك. فقد كانت للسعودية أراض محتلة صامتة، بل منسية، ولم تكن الغالبية العظمى من العرب تعرف.

هذه هي فلسطين في الجغرافيا مذ خرجت المنطقة من مخرطة سايكس بيكو. مذ استوت الكيانات السياسية الراهنة على عروشها التي راحت تخوي بمرور الوقت.

تقسيم منطقة المشرق العربي الى كيانات سياسية لم يجعل فلسطين في مكان آخر. ولم يحل دون أن تقوم كل حروب العرب مع اسرائيل، بصرف النظر عن نتائجها، بسبب القضية الفلسطينية، ومن أجلها. فلن نبخس دم عشرات آلاف الشهداء المصريين والأردنيين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والمغاربة الذين سقطوا في الحروب مع اسرائيل لأنَّ الأنظمة لم تكن صادقة في مواجهتها، أو لم تعدّ لها العدّة. فتلك قضية أخرى.

عندما نقول إن القضية الفلسطينية بنيوية في الحياة المشرقية العربية فنحن لا نتحدث عن نص أدبي ولا عن درس أكاديمي، بل عن تراب ممتد، ومياه وثروات جوفية، وبشر هنا وهناك، ولغة وشعر وغناء وعواطف دينية وفكرة وراء تأسيس هذا الحزب، أو قوام ذاك، وعن استحالة تحقيق أيّ استقلال وطني عربي مشرقي فعلاً، والتحرّر من أي وصاية سياسية كانت أم اقتصادية من دون إبطال دور القلعة الامبريالية المتقدمة وعصا الغرب الثقيلة في المنطقة: اسرائيل.

الأمر يعني، بكل بساطة، أن أيّ انكباب على مصلحة "قُطْر" من أقطار المشرق العربي، بالأخص دول الطوق، يستحيل في وجود اسرائيل على النحو الذي صُمِّمت من أجله. وهذا أبسط أشكال التداخل بين ما هو فلسطيني وعربي. يعني أنت لن تكون مستقلاً وقادراً على إدارة مواردك، والتخطيط لنهضتك، ورفاه حياتك واسرائيل بجابنك.

لا أتحدث عن برنامج نووي، ولا تطوير أسلحة بالستية طويلة المدى، ولا حتى عن طائرات من دون طيار. أتحدث عن الاقتصاد والتنمية. حتى لو لم تكن فلسطين عربية وتربطنا بها كل وشائج القربى التي لا فكاك منها، كانت ستكون حاسمة في حياة المنطقة المحيطة بها.

حتى لو كانت تتكلم في جوار فلسطين، الصينية، أو الأوردو، حتى لو كان دين الغالبية من أهلها البوذية أو الهندوسية، سيكون لها نفس الأهمية الاستراتيجية لمن يحيطون بها.

هذا طبعاً إن كنا نملك مشروعاً ورؤية، لا لرفع علم العروبة فوق 10 داوننغ ستريت، وإنما لنعيش بحرية وكرامة في بلادنا وداخل حدودنا. بهذا التبسيط المُخلّ والمبتسر لطبيعة الصراع العربي الاسرائيلي (وهو لن يكفّ عن كونه كذلك للأسباب المُبيَّنة أعلاه) لن تتوقف قضية فلسطين عن كونها مركزية واستراتيجية.

اللحظة الراهنة لا قيمة لها من دون الماضي والمستقبل. فلا يمكن النظر للواقع مجرداً من التاريخ. وهذا الأخير ليس تلك الكتب الثقيلة ذات الكعوب المذهبة الموضبة جيداً على الأرفف بل هو الآن وهنا وما يعتمل فيهما من آليات ظاهرة وكامنة.

المساهمون