من خلال زيارته إلى مجلس الدولة، يكون السيسي قد حطّ رحاله في جناحَي العدالة الأساسيَّين في مصر، إذ سبق أن زار محكمة النقض (أعلى درجات القضاء العادي). أمّا المحكمة الدستورية العليا، فستظلّ حتى يونيو/حزيران المقبل، تُدار بواسطة سلفه المؤقت، عدلي منصور، بعد اعتذاره نهائياً عن التعيين في البرلمان.
الزيارات وما يتخلّلها من مكافآت وتسهيلات متتالية يحصل عليها القضاة جميعاً، من بينهم، وزير العدل أحمد الزند، الذي أصبح من المقرّبين للسيسي، تُثبت واقعاً جديداً يعيشه النظام، يكمن في تحوُّل السلطة القضائية إلى ذراع للسلطة التنفيذية، إذ يغيب التكافؤ، ويَندر إصدار أحكام قضائية تنصف العدالة والحقوق والحريات، على عكس السنوات الماضية، بما في ذلك الحقبة الأخيرة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وكما أصدر السيسي 5 قوانين بزيادة رواتب القوات المسلحة، في كل مرة 10 في المائة، تمّ زيادة مكافآت القضاة بقرارات من وزارة العدل ومجالس إدارة الهيئات القضائية 5 مرات خلال العامَين الأخيرَين. وبالتوازي مع هذه الزيادات، يمتنع القضاة عن تطبيق القانون مع المتّهمين بمعارضة النظام، لا سيما أفراد "جماعة الإخوان" والمعارضين السياسيين الآخرين، على الأقل في مرحلة المحاكمة أمام دوائر الإرهاب بمحاكم الجنايات.
وبعيداً عن أحكام الإعدام والمؤبد بالجملة، مثل قضايا "التخابر"، و"الهروب من السجون"، و"أحداث المنيا"، و"غرفة عمليات رابعة"، يتغاضى القضاة المصريون عن تطبيق نصّ تشريعي صريح في قانون الإجراءات الجنائية، يجعل لزاماً على النيابة العامة أو المحكمة إخلاء سبيل المتهم إذا قضى عامَين محبوساً في قضية عقوبتها السجن المؤبد أو الإعدام. هذا التغاضي يُعتبر مخالفة فاضحة يتضرر منها أكثر من 1500 محبوس على مستوى الجمهورية، بحسب مصادر قانونية، تم القبض عليهم في أحداث "فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة" في 14 أغسطس/ آب 2013، وتظاهرات الجمعة التي تلتها، وأحداث العنف في 6 أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته.
ويبلغ تجاهل القانون مداه في قضية اتهام 739 شخصاً بالاعتصام في ميدان رابعة، والتي أجّلها أحد قضاة دوائر الإرهاب، حسن فريد إلى فبراير/ شباط المقبل، بحجة توسيع قاعة المحكمة، أي أن المتهمين سيكونون في الجلسة المقبلة، قد قضوا 6 أشهر تقريباً خارج الإطار القانوني والدستوري لحبسهم، الذي انتهى قانونياً في 14 أغسطس/ آب الماضي.
بالإضافة إلى هذه المخالفة التي أصبحت بمثابة الظاهرة في جميع محاكم مصر، فإن القضاة المصريين تخلّوا أيضاً عن واجب قانوني، وهو التحقيق في وقائع التعذيب التي ينسبها المتهمون إلى الشرطة والعاملون في السجون خلال جلسات القضايا. ففي أكثر من 35 واقعة تعذيب صرّح بها متّهمون للمحاكم هذا العام، امتنعت دوائر الإرهاب عن التحقيق فيها جميعاً. بل وخرج أحد قضاتها، وهو ناجي شحاتة في حوار صحافي، أخيراً، مع صحيفة "الوطن" المقربة من النظام، لينفي وقوع هذه الحالة، واصفاً المتهمين الذين يشكون التعذيب، بأنهم "كذّابون ويسعون للظهور في وسائل الإعلام".
في الملف ذاته، تمتنع النيابة العامة عن اتخاذ أي تدابير ضد الشكاوى التي تتبلغها من المتهمين المحبوسين. فعلى سبيل المثال، حصلت "العربي الجديد" على جزء من تفاصيل تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا مع نجلة سكرتير الرئيس الأسبق محمد مرسي، كريمة أمين الصيرفي، في قضية تسريب وثائق الرئاسة إلى دولة قطر، تكشف تعرُّضها للضرب والتحرش والأذيّة المعنوية في سجن القناطر النسائي. ذكرت كريمة ما مفاده، أنّ "ضابطاً أقام لها ولزميلاتها المنتميات للإخوان حفل تشريفة، إذ قام المخبرون والمجندون والسجانات بضربهن، ثم أجبرهن الضابط (ذكرت اسمه) بواسطة سجانة (ذكرت اسمها) على خلع ملابسهن". وعندما رفضت كريمة، قالت لها السجانة، "أنت كنت بتقلعي في رابعة"، ثم جرّدتها من ثيابها باستثناء ملابسها الداخلية. كما أنّ التفتيش كان ذاتياً دائماً بصورة أقرب للتحرش الجنسي اليدوي، بحسب نجلة سكرتير مرسي.
اقرأ أيضاً: "قوانين الضرورة" سهلت الفساد وأهدرت الحقوق والحريات بمصر
أمام كل هذه التفاصيل، وبالأسماء، لم يحرّك رئيس النيابة الذي يحقق مع كريمة ساكناً، بل أمر باستمرار حبسها، ولم يتعرض أي مسؤول في هذا السجن للعقاب أو حتى التحقيق، إلى أن تمّ إخلاء سبيل كريمة. كما أن النيابة فرطت في حق وواجب أصيل لها، هو مباشرة الرقابة الدائمة والمفاجئة على السجون، فتحوّلت الرقابة إلى زيارات معلنة سلفاً، تُصطحب إليها وسائل الإعلام وكاميرات القنوات الفضائية، وتكون النتيجة دائماً إيجابية.
وعلى الرغم من أن العديد من الممارسات القضائية الخاطئة في القضايا يكون مصيرها الإلغاء في مرحلة الطعن بالنقض، فضلاً عن إلغاء محكمة النقض معظم الأحكام الصادرة من دوائر الإرهاب، لا يخلو التقاضي أمامها من مشاكل تشكك في نزاهتها؛ أبرزها، طول فترة التقاضي والتقاعس عن تحديد جلسات عاجلة للطعون مقارنة بقضايا نظام مبارك، وعدم إصدارها قرارات إخلاء سبيل للمتهمين الذين جازوا فترة الحبس الاحتياطي.
وكان رئيس المحكمة الدستورية، عدلي منصور، قد أصدر قانوناً يسمح لمحكمة النقض ومحكمة الجنايات في إعادة المحاكمة بمَدّ فترات الحبس الاحتياطي للمتّهمين المحكوم عليهم سابقاً بالسجن المؤبد أو الإعدام، إلى أجل غير مسمى، وعدم التقيُّد بقاعدة السنتَين.
وعلى الرغم من أنّ هذا النص غير دستوري بامتياز، لتمييزه من دون مبرر بين المتهم الذي يصدر حكم "النقض" بإلغاء حكم إدانته، وبين المتهم المُقَدّم حديثاً للمحاكمة، فإنّ أياً من دوائر محكمة النقض أو الجنايات تجاهلت استعماله، على الرغم من أنّه نص جوازي وليس إلزامياً، كما لم تحله إحداها إلى المحكمة الدستورية العليا لما فيه من شبهات.
كما أن مجلس القضاء الأعلى أبعد عشرات القضاة عن المنصة بحجة خوضهم في السياسة وإعلان معارضتهم على صفحاتهم الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي لبعض سياسات الدولة. كما أحيل إلى التفتيش القضائي عدد آخر من شباب القضاة، لخصومات شخصية مع وزير العدل. بينما يجري قضاة دوائر الإرهاب حوارات بالجملة مع وسائل الإعلام يدلون فيها بآراء متعلقة بقضايا منظورة أمامهم.
أما جناح العدالة الثاني؛ أي مجلس الدولة، فقد تنازلت محاكمه طوعاً عن لقبها كقلعة لحماية الحقوق والحريات، بامتناعها عن إصدار أحكام نهائية حتى الآن بشأن أموال أعضاء جماعة "الإخوان" وحزب "الحرية والعدالة" والمتعاطفين معهم، والتي حجزت عليها الدولة منذ نهاية 2013 من دون مبرّرات دستورية أو قانونية، على الرغم من صدور أحكام ابتدائية ببطلان جميع قرارات التحفُّظ وإنشاء لجنة إدارة أموال الجماعة.
وامتنع المجلس أيضاً عن الفصل في عشرات الطعون ضد قرارات وزارة الداخلية، بالمنع من السفر، وفصل طلاب أكاديمية الشرطة من أقارب أعضاء "الإخوان". كما امتنع عن الفصل في الطعون الموضوعية على انتخابات البرلمان في معظم دوائر الجمهورية، وعن إحالة قوانين الانتخابات وتقسيم الدوائر المشكوك في دستوريتها إلى المحكمة الدستورية العليا، بالتزامن مع تصاعد رغبة النظام في تشكيل برلمان لامتصاص الغضب الخارجي الذي انهال على السيسي لتأخر انتخاب مجلس النواب نحو عامين.
أما المحكمة الدستورية، فهي معطلة عن العمل في ظل الطعون المنهمرة عليها لإلغاء قوانين أصدرها منصور في عام حكمه المؤقت، والذي اتخذ قراراً غير معلن بعدم نظر أي طعن بقوانينه فترة رئاسته، على الرغم من أنه قانوناً، يجب أن يتنحى عن نظرها، مما لا يعيق المحكمة عن ممارسة مهامها.
وتبقى قوانين مثل التظاهر، وتحصين عقود الدولة، وتعديل قانون المزايدات، محل طعن أمام المحكمة من دون ظهور أي أفق لتحديد مصيرها، على الرغم من استمرار تطبيقها بما فيها من مخالفات للدستور. ويرى مراقبون أن سياسة استخدام النظام للمحاكم المصرية كعصا لتأديب المعارضين مقابل امتيازات للقضاة، لم تكن لتنجح من دون اشتراك مئات من القضاة من جميع الهيئات القضائية في تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، وهتافهم صراحة ضد حكم جماعة "الإخوان"، وفي مقدمتهم قيادات نادي القضاة وعدد من أعضاء المحكمة الإدارية العليا والمحكمة الدستورية، وهو ما مرّ من دون مساءلة على الرغم من صراحة تجريمه في قانون السلطة القضائية.
اقرأ أيضاً: حكم سري يغرم مرسي وقيادات الإخوان 250 مليون جنيه