في عام 1964 عُقِدَ المؤتمرُ الفلسطينيّ الأول في مدينة القدس، والذي أقرّ الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ، وأُعلِنَ في ختامه عن تأسيس منظمةِ التّحرير الفلسطينية مُمثِلةً للشعب الفلسطيني وساعيةً لتحرير فلسطين بالكفاح المسلح.
بعد أكثر من خمسين عاماً على ذلك، وبالعودة إلى مكان التأسيس، مدينة القدس، يبدو السّؤال عن منظمة التحرير ودورها سؤالاً ذا شجون خاصّة إذا ربطناه بما تعيشه المدينة من يوميات المواجهة مع الاحتلال دون مرجعية سياسية تسندها.
وُلِدَتْ فيها وتوفيت فيها، هكذا يرى كثيرون علاقة المنظمة بالقدس، تلك المدينة التي كانت على وعد من المنظمة بالتحرير. وقد كانت تلك الوفاة على مراحل، فـ"بيت الشّرق" الذي كان يمثل العنوان السّياسي للفلسطينيين في القدس، وأحد تجليات هذه المنظمة فيها، كان كذلك يجمع بين جدرانه لقاءات مسؤولين فلسطينيين بآخرين إسرائيليين ودبلوماسيين أجانب، عدا عن اللقاءات التي كان يحتضنها فندق الأميركان كولوني المقابل لبيت الشرق.
كانت نتيجة هذه التحركات الدبوماسية أن وقّعت المنظمة اتفاقية أوسلو بعدما تخلت عن الكفاح المسلح، واعترفت بدولة الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت القدس في عرفها هي فقط ما اصطلح على تسميته "القدس الشرقية". أُنشئت السلطة الوطنية الفلسطينية نتيجة لاتفاقية أوسلو، ولكنها مُنِعتْ من ممارسة أي نشاط داخل حدود مدينة القدس فيما اعتبر تهديداً للسيادة الإسرائيلية عليها.
كان من تبعات ذلك أن يمنع، أيضاً، أي نشاط لمنظمة التحرير، حتى لو كان مهرجاناً للأطفال باعتبار ارتباطها الوثيق بالسلطة، فكان ذلك مرحلة أخرى من مراحل الوفاة التدريجية.
أما في عام 2001، وبعد وفاة فيصل الحسيني عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير والذي تولى سنوات طويلة "ملف القدس"، وكان يمثل وجه "القيادة السياسية الفلسطينية" في المدينة، أغلقت سلطات الاحتلال "بيت الشّرق" والمؤسسات الفلسطينية التابعة له، معلنة الوفاة النهائية لأي حضور للمنظمة داخل المدينة.
ولا يكاد يتجاوز نشاط المنظمة، اليوم، في ما يتعلق بالقدس نطاق إصدار التقارير الحقوقية التي ترصد انتهاكات الاحتلال وبيانات الاستنكار لها، وبعض الندوات المتفرقة هنا وهناك، تشرف عليها دائرة شؤون القدس برئاسة أحمد قريع، والتي اتخذت من "أبو ديس" مقرها، وهي بلدة تقع في الأساس ضمن ريف مدينة القدس، ولكنها، اليوم، تصنف ضمن مناطق السّلطة الوطنية الفلسطينية، بعيدة عن قلب ونبض مدينة القدس التي تواجه الاحتلال يومياً.
أما عن سؤال التمثيل للفلسطينيين، يرى أحمد صب لبن، باحث في توثيق التمدد الاستيطاني في المدينة، وهو رأي يحمله كثير من الفلسطينيين، أنه لا يمكن أن تدعي المنظمة تمثيل الفلسطينيين، بينما لا تضم في جنباتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين تتمتعان بشعبية واسعة بين الفلسطينيين.
في المقابل، لا يعتقد عنان نجيب، ابن مدينة القدس وأسير سابق، بأنه يمكن إصلاح المنظمة حتى لو أصبحت عباءة التمثيل فيها أوسع وضمت بداخلها الفصائل الإسلامية الفلسطينية. فحسب تعبير نجيب: "ما تبقى من المنظمة غير قابل لإعادة البناء أو حتى الترميم، فقد تنازلت هذه المنظمة عن الخطوط الحمر للشعب الفلسطيني لصالح عملية التسوية السلمية، وهو أمر يصعب جمع الفلسطينيين على تأييده".
وفي سياق السّؤال عن التمثيل، وبالرجوع إلى الحياة اليومية في القدس وتفاصيل المواجهة والصمود أمام قهر الاحتلال، يشكل الفلسطينيون في القدس نموذجهم الخاصّ. فلا تكاد تلمس في أحاديث أهالي المدينة، وخاصة تلك التي تنطلق عفوية أوقات اشتداد المواجهات، أية صلة شعورية بالمرجعيات الكثيرة والمؤسسات الرسمية التي تدّعي وصلاً بالقدس واهتماماً بشؤونها.
كثرة تلك المرجعيات بدءاً من دائرة شؤون القدس ومروراً بالمؤتمر الشعبي للقدس، ومحافظة القدس، وليس انتهاء بوزارة شؤون القدس، يواجه من أهالي المدينة ببعض من السخرية المجبولة بالألم على حال المدينة، إذ غالباً ما يطلقون عليها تسمية "الدكاكين" في إشارة إلى أنها تسعى لتحقيق المصالح الضيقة دون اهتمام صادق أو جدوى حقيقية لعملها على الأرض.
وفي حين يصرخ بعضهم، في وقت الأزمات، "أين المسؤولون، أين القادة؟"، يرى آخرون أن لغياب التمثيل إيجابيات على مستوى الفعل الشعبي المقاوم، فمع تكرار تجارب القيادة المخيبة للآمال، يظهر أن غياب التمثيل أعطى مساحاتٍ أوسع للتّحرك والنّضال، دون وجود مرجعيات تحدد شكل وسقف هذا التحرك.
وفي ظلّ هذا الفراغ، تعمل سلطات الاحتلال جاهدة على خلق "ممثلين" للفلسطينيين في القدس، غالباً من الوجهاء والمخاتير ومديري المدارس ورجال الأعمال، ليكونوا صلة وصل بين شعبهم وبين أذرع الاحتلال المختلفة، ومن بينها بلدية الاحتلال، وبطبيعة الحال أداةً لتنفيذ السياسة الإسرائيلية.
وإذ تقوم سلطات الاحتلال بذلك، فهي تلعب على وتر أن "الحياة في القدس أفضل من بقية الضفة الغربية"، وأن "مفتاح تحسين الظروف المعيشية لأهالي القدس، هو التوجه للبلدية وغيرها، وليس لمؤسسات السلطة أو ما يوازيها". يترافق مع ذلك تشجيع مبطن على المشاركة في انتخابات بلدية الاحتلال، ومحاولة الدمج المكثف في سوق العمل الإسرائيلي ومؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.
ومع كلّ ذلك، غياب المرجعية السياسية الفلسطينية الواضحة، ومحاولة سلطات الاحتلال ملء هذا الفراغ وتوظيفه لصالحها، لا يملك أحد السيطرة على غضب الناس وفورتها انتصاراً لوجودها وثباتها في القدس، ذلك الوجود من لحم ودم، متجاوزاً لأي إطار سياسي حتى لو كان فلسطينياً. ومن هنا يمكن أن نفهم عبارة "ولا حداً بقدر يحكي باسم القدس غير أهل القدس".
(مراسلة العربي الجديد في القدس)