القدس في مواجهة التهويد
وكان قد تم استصدار قانون أملاك الغائب عام 1950، في محاولة لإضفاء الصفة القانونية على سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية تدريجياً، حيث يمنح "القانون" الوصي الإسرائيلي على أملاك الغائب "الحق" في الاستيلاء عليها وإدارتها والسيطرة على الأرض التي يملكها أشخاص، يعرَّفون بـ"غائبين".
ويمكن القول إن الإصرار الإسرائيلي على تطبيق رزمة قوانين عنصرية في مدينة القدس، يندرج في سياق منهجية حكومة نتنياهو، للإطباق على المدينة، وتهويد كل مناحي الحياة فيها، وصولاً إلى الإخلال بالتوازن الديموغرافي لصالح اليهود في المدينة، وبالتالي، نسف آمال منظمة التحرير في إقامة دولة فلسطينية، عاصمتها القدس. وسيشهد المتابع استصدار قرارات إسرائيلية، وإحياء أخرى، لجهة فرض الأمر الإسرائيلي الواقع على المدينة، وسيترافق ذلك مع مزيد من اقتحامات مجموعات استيطانية باحات الأقصى المبارك، وكذلك الإخطارات، بغية هدم عشرات المنازل العربية في أحياء القدس.
"قوننة" إجراءات التهويد
في سياق سياستها لتهويد معالم مدينة القدس، أعلنت حكومة نتنياهو، أخيراً، أنها تبنت قرارا للشروع مجددا في تطبيق قانون أملاك الغائبين، ليشمل الممتلكات المحجوزة في القدس الشرقية المحتلة. وتم قبل ذلك، إصدار قرار لتهويد قطاع التعليم، وإسقاط الجنسية عن المقدسي الذي غادر القدس للدراسة أو العمل في الخارج، قبل عدة سنوات. والهدف من تطبيق تلك القرارات جعل العرب المقدسيين أقلية في القدس، لا تتجاوز نسبتهم 12% من سكان المدينة في عام 2020.
ويمكن القول إن تطبيق رزمة القرارات الجائرة أدى إلى سيطرة إسرائيل على القسم الأكبر من الأراضي الفلسطينية التي تعود ملكيتها للاجئين الفلسطينيين الذين هاجروا إلى خارج فلسطين، إثر نكبة عام 1948. وفي آخر الأمر، حولت الأراضي الفلسطينية التي استولي عليها وفقاً لهذا القانون بعد عام 1948 من الوصي إلى سلطة التطوير الإسرائيلية، أو الصندوق الوطني اليهودي، واستخدمت لتوطين اليهود فقط. بعبارة أخرى، أضفى قانون الغائب "الصفة القانونية" على مصادرة الممتلكات الفلسطينية، وحوّل تلك الأرض لاستخدام اليهود فقط، ولم يُدفع أي تعويض للمالكين الفلسطينيين الأصليين.
ويعد تطبيق إسرائيل القانون المذكور على القدس الشرقية المحتلة، مدخلاً للإعلان عن أي ممتلكات فلسطينية في القدس الشرقية، يقطن أصحابها في الضفة الغربية، أو قطاع غزة، أو أي بلد عربي، بأنها "متروكة". وبذلك تفتح الطريق أمام مصادرتها وتطويرها للاستخدام الإسرائيلي فقط، من دون دفع أي تعويضات لمالكيها الفلسطينيين.
أما مخاطر تطبيق قانون الغائبين على مدينة القدس، فإن المؤسسات الإسرائيلية بات في وسعها مصادرة الأرض الواقعة إلى الغرب من الجدار، وعدم دفع أي تعويضات لمالكيها الفلسطينيين. ولا تعرف مساحة الأراضي التي ستتأثر بتطبيق قانون أملاك الغائب، لأن الحكومة الإسرائيلية استولت على سجلات كل الأراضي الفلسطينية المستأجرة في القدس، بعدما أغلق بيت الشرق في أغسطس/آب 2001.
فلسطينيون يتسلقون الجدار الفاصل بين بيت لحم والقدس (17نوفمبر/2014/أ.ف.ب) |
وتفيد دراسات بأن إسرائيل صادرت 43.5% من الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية، واستخدمت لبناء المستوطنات الإسرائيلية فقط، خصوصاً أن القدس تستحوذ على النسبة الكبرى من النشاطات الاستيطانية. وذكرت الدراسات أن 41% من الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية تعدها إسرائيل "منطقة خضراء"، فتخضع لقيود بناء مشددة وضعتها حكومة الاحتلال، فضلا عن ذلك يسمح للفلسطينيين باستخدام 12،1% فقط من مساحة القدس الشرقية، 50% منها، أي 6% من مجموع مساحة القدس الشرقية، أملاك "غائبين". وبذلك، يمكن مصادرتها وفقا للقانون الجديد. وتستخدم إسرائيل 4.3% من مساحة القدس الشرقية للمرافق العسكرية الإسرائيلية والطرق، وغير ذلك من البنى التحتية الإسرائيلية. وفيما يتعلق بأراضي "المنطقة الخضراء"، تتلاعب الحكومة الإسرائيلية بقانون عثماني قديم، ينص على أن الأراضي التي لا تتم فلاحتها ثلاث سنوات، يمكن أن تصادرها الدولة، وتعلنها "أراضي دولة". ومع وجود القيود الإسرائيلية الحالية على الحركة الفلسطينية والاستمرار في بناء الجدار، بات المزارعون الفلسطينيون يواجهون صعوبات جمة في الوصول إلى أراضيهم. ونتيجة ذلك، تواجه كل أراضي هذه "المنطقة الخضراء" خطر المصادرة، وليست فقط المساحة التي يملكها أصحاب الأراضي "الغائبون" المعرّضة للمصادرة.
ترانسفير مبرمج
طبقت السلطات الإسرائيلية قوانين عنصرية جائرة على أهالي القدس وأرضهم، منذ عام 1967، فبالإضافة إلى استخدام قانون الغائب للسيطرة على أراضي المقدسيين الموجودين خارج مدينة القدس، سعت السلطات الإسرائيلية إلى القيام بعملية إفراغ المدينة بتطبيق قوانين سحب الهوية الإسرائيلية من المقدسيين الذين يقيمون أكثر من عام خارج مدينة القدس، وكذلك الحال للعرب المقدسيين الذين استحوذوا على جنسيات أخرى في دول العالم.
وتبعا لذلك، ثمة عشرات الآلاف من المقدسيين مهددون بسحب هويتهم وطردهم، والسيطرة على عقاراتهم وأرضهم في السنوات القليلة المقبلة. وفي إطار السياسات الإسرائيلية التهويدية في مدينة القدس، كثفت حكومة نتنياهو مخططاتها لفرض الأمر الواقع في مدينة القدس، فهناك مخطط للقيام بعمليات جرف وتدمير لآلاف المنازل، لكسر التجمع العربي داخل الأحياء العربية في المدينة، مثل حي الشيخ جراح والعيزرية. ونتيجة تلك المخططات، 35 ألف مقدسي مهددون بالطرد إلى خارج مدينة القدس.
وبعد استصدار القانون الإسرائيلي، القاضي بتهويد قطاع التعليم العربي في مدينة القدس، خصوصاً في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، يلاحق شبح الترانسفير ثلاثين ألف فلسطيني من القدس، للاستئثار بفرص التعليم في بقية مدن الضفة الغربية. وكانت إسرائيل قد طردت 15 ألف مقدسي في أثناء احتلالها القدس الشرقية عام 1967، ناهيك عن طرد نحو 60 ألفا من المقدسيين، المسلمين والمسيحيين، عام 1948، بفعل مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية في قرى قضاء القدس، مثل قرية دير ياسين وغيرها.
تهويد الأحياء القديمة
لم تكن القوانين الإسرائيلية بشأن تهويد مدينة القدس حديثة العهد، فبعد أن أعلنت السلطات الإسرائيلية ضم القدس الشرقية في 30 يوليو/تموز 1980، سعت إلى الاستيلاء على مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية، وضمها إلى القدس باستصدار قوانين تشرع ذلك، فقدرت مساحة المدينة بنحو 108 آلاف من الدونمات، ثم توسعت إلى القدس الكبرى، حتى وصلت مساحة المدينة إلى 123 ألف دونم. وهناك مخططات استيطانية لرفع نسبة أراضي القدس الشرقية، وحدها، لتصل إلى ربع مساحة الضفة، قبل انطلاق أي مفاوضات حقيقية، لما تسمى قضايا الحل النهائي التي تشمل المفاوضات على القدس واللاجئين.
فضلا عن ذلك، تجري محاولات إسرائيلية حثيثة، لتطبيق سياسة سكانية مبرمجة لتهويد القدس في السنوات المقبلة، في سياق سياسة ديموغرافية، تعتمد، أساساً، على طرد أكبر عدد من العرب الفلسطينيين من المدينة، بحجج مختلفة، وجذب أكبر عدد من المهاجرين اليهود إليها، عبر إغراءات مالية كبيرة. والهدف من ذلك كله محاولة فرض الأمر الواقع الديموغرافي اليهودي، وتدمير حضارتها التي ما زالت من أهم الدلائل على تاريخ الإنسان العربي وجذوره فيها.
ويلحظ متابعون أن ثمة تركيزا للنشاط الاستيطاني داخل الأحياء العربية القديمة في القدس، بغرض تهويدها عبر الزحف الديموغرافي، وإحلال مزيد من المهاجرين اليهود فيها عبر الإغراءات المالية والمساعدات الضخمة، ناهيك عن الإعفاءات الضريبية للمستوطنين اليهود، سواء داخل المستوطنات التي تحيط بالقدس من جميع الاتجاهات، وعددها 26 مستوطنة، وفيها 180 ألف مستوطن، أو الذين أقاموا في أحياء يهودية في داخل مركز المدينة، أو بالقرب من الأحياء العربية القديمة. يحصل ذلك كله في ظل غياب عربي وإسلامي واضح، لدعم المقدسيين وتثبيتهم في مدينتهم لمواجهة السياسات الإسرائيلية، وعاصفة التهويد التي تجتاح مناحي الحياة في المدينة.
ويبقى القول إن ثمة اقتحامات متسارعة، حصلت أخيراً، من الجماعات اليهودية لباحات المسجد الأقصى المبارك. وهناك تصريحات متواترة من قادة المستوطنين وأعضاء في الكنيست لتكرار الاعتداءات في المستقبل، بوتيرة أعلى، وبدعم من المؤسسة الحاكمة في إسرائيل على المسجد الأقصى ورموزه الدينية. ولدرء المخاطر المحدقة على مدينة القدس، وجوهرتها الأقصى المبارك؛ لابد أن يرتقي العرب والمسلمون إلى مستوى التحدي.
وهناك مصادر قوة وقدرات كامنة في الوطن العربي، حيث تساهم الدول العربية بنحو 31% من إجمالي إنتاج النفط العالمي يومياً، ناهيك عن استحواذها على نحو 60% من احتياطي النفط في العالم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل هناك إرادة سياسية عربية لاستخدام تلك المصادر والطاقات، للضغط على القوى الفاعلة في إطار العلاقات الدولية لإجبار إسرائيل على وقف إجراءاتها التهويدية التي تجتاح مدينة القدس، أكثر من أي وقت مضى.
انتفاضة ثالثة
ما تشهده فلسطين من حراكات شعبية، رداً على سياسات تهويد القدس، يعتبر من مقدمات انتفاضة فلسطينية ثالثة، ويذكرنا هذا المشهد بانطلاقة انتفاضة الأقصى إثر تدنيس الإرهابي، إرييل شارون، باحاته المقدسة في نهاية سبتمبر/أيلول 2000. لكن، تحتاج الانتفاضة الثالثة بكل تأكيد عوامل وروافع وطنية وقومية، لاستمرارها حال انطلاقتها. ويمكن الجزم بأن الحراك، قبل عدة أيام، كان أكثر تنظيماً في داخل الخط الأخضر لنصرة الأقصى، مقارنة بالضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب الانقسام الحاصل هناك، على الرغم من تشكيل حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية في صيف العام الحالي 2014، الأمر الذي يعزز فكرة تجميع قدرات القوى الصامتة الفلسطينية، للضغط على الفصائل الفلسطينية، بهدف تجاوز عقدة الانقسام المديد، ومن ثم رسم استراتيجية فلسطينية موحدة، لمقاومة سياسات الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في مدينة القدس. ومن شأن ذلك، أن يكون بمثابة حواضن وطنية أساسية لانتفاضة ثالثة، تعم فلسطين من النهر إلى البحر، لتحقق في نهاية المطاف آمال الشعب الفلسطيني وأهدافه.