القدس طريق باتجاهين

23 يوليو 2015
القدس مدينة معروفة الإحداثيات بدقة المليمتر (فرانس برس)
+ الخط -
كان أمير القدس شخص يدعى سقمان بن أرتق التركماني عندما أخذ وزير الدولة الفاطمية الأفضل بن بدر الجمال طريقَ القاهرة عسقلان ثم القدس واحتلها وأخرج سقمان منها وعيَّن عليها حاكماً من قبله يدعى افتخار الدولة، ثم أخذ الصليبيون (الفرنجة كما يقول ابن الأثير)، طريق أنطاكيا واحتلوا القدس وأسسوا فيها مملكة بيت المقدس.


انتظر صلاح الدين أقل من مئتي عام بقليل قبل أن يسلك طريق طبرية إلى القدس ويسترجعها من بين يدي ملكها غي آل لوزينيان.. وبعد أربعين عاماً، تنازل الملك العادل ابن شقيق صلاح الدين عن القدس للإمبراطور فريدريك الثاني الذي سلك طريقاً بحرياً من صقلية إلى الساحل الشرقي ليسترجع درّته بيت المقدس. وبعد عشر سنوات أخذ الملك الناصر، حفيد صلاح الدين، طريق مصر مرة أخرى واستعاد القدس للمرة الأخيرة، وبقيت بحوزته وحوزة مماليكه من بعده حتى حل بها العثمانيون ثم الإنكليز.. القدس الآن، بحسب خريطة الأمر الواقع، تقع على خاصرة ضيقة للضفة الغربية حيث تعصر الضفة نفسها بشدة وتشكل ما يشبه الكلية الآدمية لتسمح للقدس أن تضطجع بحُرية على الضفة الإسرائيلية، ويصفها موقع غوغل بكل وقاحة بأنها "كابيتال أوف إسرائيل"، بينما يضعها قرار التقسيم وبشكل كامل ضمن الحصة الفلسطينية، رغم أنه يسميها "لا عربية ولا يهودية".

عبثت عدة حروب بالخارطة لتستقر القدس في ذلك المكان المميّز، المفتوح على كل الطرقات وكأنها الطاحون التي تؤدي كل الدروب إليها. القدس مدينة حديثة، بحسب موقع وزارة السياحة الإسرائيلية، ترشد السياح إليها بتقسيمها إلى قسمين؛ قديم وجديد، وتسهب الوزارة، مطمئنة، في الوصف التفصيلي المشوّق الجاذب للسياح الذي يترافق بصور ذات تركيز عالٍ وخرائط موقعية تحدد أهم الأماكن.

القدس مدينة معروفة الإحداثيات بدقة المليمتر وبواباتها واسعة مفتوحة على الدوام، وطرقاتها باتجاهين كل اتجاه يضم ثلاث حارات أو أربع، وحركة المرور فيها مزدحمة ونشيطة، لا تتأثر بقصف الصواريخ من أي جهة، ولا تلقي بالاً للطائرات بدون طيار البدائية التي تسقطها الرياح البسيطة، بينما يتنافس حزبا أميركا التقليديان على نقل العاصمة من تل أبيب إليها..

القدس مدينة مطمئنة لا تفهم اللغة العربية، ولا تعي ما يقوله الخطباء حولها، وخصوصاً خطباء طرق المواصلات. لا تبدو معركة "القدس" واقعية الآن وهناك عشرات الحروب الصغيرة المشتعلة في العواصم والضواحي المجاورة لها، والزج باسمها في ميادين الخطابات ليس سوى مبالغة فارغة وتطرّف غير مبرر وقراءة خاطئة للراهن.

صرخ منذ زمن بعيد التلمود البابلي قائلاً: "قُسِّمَ جمال العالم إلى عشرة أجزاء أَخَذَت أورشليم تسعاً، وبقيةُ مدن العالم تقاسمت الجزء الباقي". تقرأ هذا المقطع المطعّم بقدسية التراث، ولا تتمالك أن تبتسم لخطورة التفخيم المقصود، وتدرك، بمجرد النظر إلى فستان عرس أو خاتم خطبة، أن في العالم مقداراً هائلاً من الجمال قد يكون في القدس كمية كبيرة منه، ولكن الجمال ليس مقصوراً عليها، ووضعها، حالياً، على هيئة هدف نهائي لا يبرر المعارك الجانبية التي تُخاض باسمها، وعلى شرفها، رغم أن هذه الحروب تقام على بعد آلاف الكيلومترات منها.
حديث الطرقات المؤدية إلى القدس يعيه التاريخ، ويضعه أمامنا بكل يسر.. نقرأ ابن الأثير ووليم الصوري وغيرهم وندرك بأن التاريخ كائن لبق يعرف كيف يقدم مادته ومقدماته وأبطاله، ويمكن أن نميّز بين البطل وبين الكائن الكرتوني، وما زال الوقت مبكراً للوصول إلى الطريق الذي تقع القدس في نهايته، فقد يكون هذا الطريق مفروشاً بالورود، وليس بالبنادق والرصاص والجثث وعشرات المدن النازفة في سورية والعرق واليمن.

(سورية)
المساهمون