القدس التي ليست لنا...!

06 ديسمبر 2017
+ الخط -
في زمن ما ..
لم نكن حينها على قيد الحياة حقيقةً، كنا أشبه بالتماثيل، أو القطعان الهائمة، في ذلك الوقت، كان كل شيء على حافة خراب كبير، الدماء كانت تسفك كأضاحي حجٍ ملأ مكة وما حولها، الدمار كان الشكل الجديد للمدن المتحضرة في شرقنا، الطغاة يتوحدون في جيوش جرارة، ونحن نتمزق كأي شيء مهترئٍ أنهكته تصاريف الزمان ودورته الخالدة..

الرياح تعبث بنا كأوراق خريف قد مرت عليه ألف سنة ولم يجد للخروج منه سبيلاً، كان الشتاء معتقلاً في زنزانة الحاكم، الصيف كان يستثمر في بنك الدولة، والربيع الذي انتظرناه طويلاً صنعوا من أزهاره شراباً لتهدئة الحاكم وزمرته، فقد كانت دماؤهم تغلي لمجرد تخيل أن براعمنا يمكن أن تزهر يوماً فيتم اقتلاع الأرض من تحتها، وقلب السماء حمماً فوق رؤوس كل من يفكر أن يزرع أي شيء.


كان أسهل ما يمكن أن يحدث، هو إعلان القدس عاصمة للصهاينة، وهدم المسجد الأقصى، وسلب حقنا في الأرض المباركة، كان ذلك سهلاً جداً، يومها انتفض الرعاع كمثلي الآن.. ودونوا رفضهم، وانتهت المعركة بانتصار العدو، وإطلاق هاشتاغ من لا يجيدون إلا الصراخ #القدس_لنا.

يومها كانت عواصمنا كلها بأيدي الصهاينة دون أن يُعلن ذلك، دمشق كانت مستباحة، صنعاء يأكلها قمل النتن الطائفي، الجزائر تكابر على هرم طاغيتها، والقاهرة ترقص عاريةً أمام نظرات الخوف والوجوم من أبنائها الذين ينزفون، بغداد كانت قد قَتلت كلّ فرسانها وامتطاها العبيد والموالي، وباقي العواصم نائمةٌ هادئة وادعة في أحضان ذلها واحتضارها.

حلب مدينتي أنا، كآخر القلاع الساقطة كانت تُهان تحت أقدام ديوثي العصر، ونحن قد هربنا بما نقدر عليه من عبارات الصمود المرتجى والآمال القادمة.. أذكر أننا قد صغنا يومها كل العبارات المنمقة الجميلة المليئة بالحماس والعنفوان والثأر، كهذه ..

كانت الكلمات تهزنا كأننا راقصات موت، فينتشي العدو بكأس نبيذٍ من دمائنا ويضحك ساخراً.. أن قد هزمتم وأنتم ترقصون أو تهتزون صموداً في منافيكم المليئة بالخبز والعار.

في زمن ما، حدث هذا.. لم نكن حينها على قيد الحياة حقيقةً، كان الموت قد أخذ كل شيء فينا.. وتركنا جثثاً.. قطعاناً هائمة.. فعن أي قدس تتحدثون.. يومها لم تكن القدس موجودةً أصلاً، إلا في حكايات الصغار وأحلام الصلاة وأورشليم الصهاينة..
دلالات
أحمد العبسي
أحمد وديع العبسي
كاتب وصحفي سوري. مدير عام صحيفة حبر السورية. أكتب لأجل الحرية فقط وأؤمن بالثورة كأداة للتغيير. يقول: الانحياز هو الحرية المطلقة، عندما أؤمن بما أريد وأعبّر عنه بشجاعة.