مأزق النظام السوري
لا يمكن أن يستمر النظام السوري بالتعاطي مع الحرب بطريقته المعتادة، لأنه لم يعد يسيطر على مفاصل الدولة، ولا على قرارها، وإن كان يدّعي ذلك. ويعلم السياسيون والعسكريون وقادة الأجهزة الأمنية، وحتى قادة الرأي الاجتماعي، أنهم يحاولون صياغة "وهم السيطرة" بتكرارهم لمفردات السيادة والاستقلال، والدولة والمؤسسات، لأنّ الدولة ونظامها ومؤسساتها اليوم منقسمة بين روسيا وإيران ومليشيات اقتصادية عسكرية داخلية تتبع لكبار الفاسدين في الدولة والنظام.
إنّ تحويل سورية إلى دولة مخدرات، ودولة عصابات تبتز أصحاب رؤوس الأموال وتفرض الإتاوات، لن ينقذها من الجحيم الاقتصادي والمعيشي الذي تمرّ به، لأنّ ما يفترضه النظام حلاً هو تكريس للمشكلة والدمار والتخريب، وتعميق للقطيعة الاجتماعية والسياسية، واقتراب من الهاوية بشكل أكبر، فالدولة المارقة لن تستطيع الاستمرار طويلاً في هذا العالم، ولن تستطيع إيجاد حلول للأزمة، بينما التنازل للناس والاستجابة للتغيير وللحوار السياسي، سيكون مكسباً للجميع، وسينقذ سورية قبل كلّ شيء، سينقذ الشعب السوري الذي تخطّى بمجمله عتبة الفقر بمراحل عديدة، ويعاني من تداعيات أسوأ حقبة في تاريخه.
إن النظام يعلم أنه على عتبة الاستبدال، ويحتاج معجزة لكي ينجو من هذه العتبة، فالأولويات الروسية لم تعد في سورية، والنظام كله أصبح ورقة تفاوض قد تقدمها روسيا في أيّة لحظة تكون أوكرانيا فيها هي المقابل وبدون تردّد، وإيران التي تحاول بناء مشروع أيديولوجي في المنطقة تعاني هي الأخرى من أزمات داخلية اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية، ومن مقاطعة دولية ليست أخفّ وطأة مما يعاني منه النظام السوري، ورغم كلّ ما تحاول إيران القيام به لتكون حليفاً صلباً إلى جانب النظام، إلا أنها لا تتمتع بالقوة الكافية لكي تواجه أي مشروع تتوافق عليه روسيا وتركيا، وتعلم أنها عنصر غير مرّحب به اجتماعياً، وأنها تشكل التهديد الأكبر للإقليم، لذلك فهي تحاول كسب الوقت لا أكثر.
ما يفترضه النظام حلاً هو تكريس للمشكلة والدمار والتخريب، وتعميق للقطيعة الاجتماعية والسياسية، واقتراب من الهاوية بشكل أكبر
تستميت إيران اليوم من أجل عرقلة التقارب التركي مع النظام السوري، لأنها تعلم أنّ ذلك سيكون الخطوة الأولى في إخراجها من خارطة الصراع، وهي تحاول إقناع النظام بأنها تمثل الحليف الأفضل الذي لن يتخلّى عنه، لأن لديها مشروعا ديموغرافيا يتقاطع مع إيديولوجيا الأسرة الحاكمة.
طلبت إيران بوضوح من النظام التوّقف عن لقاء الأتراك، وقدمت له مشروع تحالف أمني عسكري جديد (اللجنة الدفاعية والأمنية المشتركة)، إضافة إلى تصريحات قائد الحرس الثوري الإيراني عن استعداد إيران لتقديم كلّ ما يلزم للنظام السوري، بما يغنيه عن أيّ محادثات مع أنقرة، وفي كافة المجالات والأبعاد، كما جاء في التصريح. ولكن النظام يعلم فعلياً أن إيران ليس لديها الكثير لتقدمه، لأنها تحتاج لما تأخذه بشكل أكبر.
من المفترض أن يعلم النظام أنّ إيران تحاول أن تطيل عمره لكي تكسب الوقت من أجل مشروعها، لا لكي تحميه، بل لتصبح أوراقها أقوى على الطاولة، ولكي تتغلغل أكثر في المؤسسات السورية، وفي المجتمع السوري، بما يحميها من قوة الضربات القادمة، وعندما يحين الوقت ستكون أول من يتخلّى عن النظام من أجل ترسيخ مصالحها الديموغرافية في المنطقة. فهي تحاول أن تدعم النظام ليكون ورقة في يدها بدلاً من أن يكون ورقة في يد روسيا أو تركيا.
إنّ الوقت الذي يمرّ به النظام هو من أعقد الأوقات التي مرّ بها خلال سنوات الأزمة، وإنّ المبادرة التركية جاءت لتخلط الأوراق، وربما لتقدّم للنظام أفضل السيناريوهات الممكنة بعودته إلى محيطه الإقليمي والعربي مقابل البدء جدّياً بالتفاوض حول حل حقيقي في سورية، حل سيتنازل به النظام عن أشياء كثيرة، ولكن مقابل استعادة وجوده، وإنقاذ سورية من أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
النظام يعلم فعلياً أن إيران ليس لديها الكثير لتقدمه، لأنها تحتاج لما تأخذه بشكل أكبر
لم تعد هناك مساحة كافية للنظام ليتصرّف بغباء أو سذاجة سياسية، وعليه أن يدرك أنّ أنقرة أعادته إلى دائرة الاهتمام، ولكن لن يكون ذلك دون مقابل، فحتى حلفاء النظام أعادوا تقييمه بعد عرض أنقرة الدبلوماسي، وبقي على النظام أن يختار بين تحالفات مؤقتة ومتهالكة مع دول ضعيفة، وبين تحالفات قوية أساسها التحالف بين السوريين من جديد.
التقدم الميداني والنصر على الأرض هما أوهام كبيرة، يعلم النظام أنه لا يملك منها أي شيء، وأنّ الدول الراعية التي حققت للنظام نصره المزعوم، هي الدول التي أخرجت النظام من اللعبة السياسية تماماً، كما أخرجت الشعب السوري والمعارضة من ذات اللعبة، إنّ هذه الدول التي انتصرت على الشعب السوري لن تستجيب، ولا للحظة لإرادة نظام منتهي الصلاحية، وإنما ستحاول استخدامه وابتزاز السوريين به لأطول فترة ممكنة.
أعتقد أنّ النظام السوري يعيش ساعاته الأخيرة، إذا لم يستجب لتغيير سلوكه السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي، وإن مماطلته ستجعله شريكاً غير مرغوب باستمراره، واختياره إيران سيجعله ورقة منتهية تماماً، تنتظر أن تقدمها إيران لشركائها الإقليميين من أجل مصالحها، بينما هو الآن يملك أن يقدّم نفسه بنفسه، وهذا ما يجب أن يدركه النظام ويتحرّك تجاهه.
على النظام أن يتحرّك سياسياً، وألا يختار الانتحار وتدمير ما تبقى من البلاد، فلا يوجد من يستطيع إنقاذه حالياً إلا الاستجابة لمتطلبات التغيير مهما كانت قاسية. وإن رفضه المفاوضات والتغيير السياسي (في السياق الحالي) سيكون أكثر اللحظات حمقاً في تاريخه.
إن المعارضة السورية تمرّ بنفس الأجواء المشحونة، وإنّ لحظة الضعف المشتركة ربما تكون لحظة لقاء جيدة من أجل إيجاد حل للسوريين بأيديهم، والملفات الإنسانية (المعتقلون وفتح الطرق) هي ملفات جيدة للبدء بتبادل الثقة، وإذا أصرّ النظام على عناده في هذه النقطة، فهو يصرّ على زواله، ولكن بفاتورة أكثر كلفة للجميع، وربما يكون السوريون فيها هم الخاسر الأكبر.