15 نوفمبر 2024
الفوضى الأميركية والتمدّد الروسي في منطقتنا
لربما لم يتحد الفرقاء السياسيون في الولايات المتحدة، في السنوات الثلاث الأخيرة، على أمر كما اتحدوا، هذه المرة، ضد قرار الرئيس دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من سورية، وتخليه عن المقاتلين الأكراد الذين ترى فيهم المؤسسة الأميركية حلفاء موثوقين. كان ترامب قرّر، في السادس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، سحب قوات أميركية من شمال شرق سورية تعمل مع ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي عمادها وحدات حماية الشعب الكردية، وتعتبرها تركيا إرهابية بسبب صلاتها بحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حرباً انفصالية ضدها في شرقي البلاد. ولم تمض أيام ثلاثة إلا وكانت تركيا تطلق عملية "نبع السلام" في شمال شرق سورية، بهدف إبعاد المليشيات الكردية المسلحة بعمق 32 كيلومترا عن حدودها الجنوبية، وإقامة "منطقة آمنة" بطول 440 كيلومترًا بهدف إعادة توطين مئات الآلاف من اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها فيها.
اللافت هو اتفاق الناقدين للقرار، أميركياً، ديمقراطيين وجمهوريين، مدنيين وعسكريين، على أنه "وصمة عار وطنية"، و"خيانة" للأكراد، و"خطأ استراتيجي فظيع". أيضاً، اتفق جل الفرقاء السياسيين على رفض الاتفاق مع تركيا، الموقع في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، والقاضي بتعليق عملية نبع السلام خمسة أيام، لإفساح المجال أمام انسحاب المليشيات الكردية من المنطقة التي تريدها تركيا "آمنة"، على أساس أنه يكافئها على "عدوانها" من دون أن يرتب عليها مسؤوليات. بل ثمّة من اعتبره "استسلاما" لها، وبأنه يهز موثوقية الولايات المتحدة بين حلفائها.
صعّدت النقطة الأخيرة من منسوب نقاش آخر أوسع، يجري في الدوائر الأميركية، فعلى الرغم
من أن ثمة توافقاً عاماً على أن الولايات المتحدة ينبغي أن تسحب، في المحصلة، قواتها من بعض بؤر التوتر في العالم، كما في سورية وأفغانستان، إلا أن كيفية الانسحاب هي محل الخلاف. ترامب يصر على تحقيق الانسحاب في أسرع وقت ممكن، على أساس أن هذا وعد انتخابي قطعه على نفسه، وهو لا يريد أن يتوجه إلى الانتخابات في العام 2020 من دون إنجازه. في حين يجادل آخرون أن أي انسحاب أميركي ينبغي أن يكون مدروساً، بحيث لا يؤدي إلى حدوث فراغ تعبّئه قوى منافسة أو خصمة، كما في حالة سورية. ويرى بعضهم أن مقاربة ترامب للدور الأميركي في سورية قلبت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط رأساً على عقب، إذ إن هذه المنطقة حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. ويشير هؤلاء إلى أن رؤساء سابقين دائما ما تردّدوا في إرسال قوات أميركية إلى المنطقة، إلا أنهم لم يقبلوا إحداث فراغ يملأه الروس.
التحذير الأخير هو بالضبط ما جرى في سورية بعد قرار ترامب، والانسحاب الفعلي الذي تبعه لعدد من القوات الأميركية العاملة في شمال شرق سورية، مع بقاء قواتٍ قليلةٍ هناك لحماية آبار النفط، وأخرى في قاعدة التنف، جنوبي البلاد، على الحدود السورية – العراقية ــ الأردنية، لمنع إيران من تحقيق تواصل جغرافي برّي بدءاً بحدودها، مروراً بالعراق وسورية، إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط. ويرى المعارضون لسياسة ترامب في المنطقة أنه قدّم هدية ثمينة لكل من روسيا وإيران ونظام بشار الأسد، فضلا عن تركيا، جرّاء قراره الانسحاب من سورية. كما يشيرون إلى أن ثقة الحلفاء قد اهتزت بالولايات المتحدة وإمكانية الاعتماد عليها، ولعل هذا ما دفع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى أن يزور إسرائيل مباشرة بعد توقيع الاتفاق مع أنقرة لتهدئة مخاوفها من أن الولايات المتحدة لن تتركها مكشوفةً أمام التهديد الإيراني في سورية.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تجادل بأن هذا لا يعتبر تخلياً عن حلفائها، وأن واشنطن لم تقدّم يوماً تعهداً بالدفاع عن الأكراد "إلى الأبد"، إلا أن الحقيقة أن الولايات المتحدة، ومنذ سنوات، تثير هواجس حلفائها، بما في ذلك الأوروبيون، من أنه لا يمكن الركون إلى مظلتها الحمائية، وهي فعلاً تحدث فراغات، في غير مكان، تتمدّد فيه قوى منافسة، وتحديدا روسيا، ثمَّ الصين. ولعل في توجه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد توقيعه الاتفاق مع واشنطن، إلى سوتشي للاجتماع بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتوصّله إلى تفاهمات جديدة معه في سورية يؤكد هذا المعطى. الحقيقة التي لا مراء فيها هنا أن روسيا سيطرت مباشرة على الأماكن التي أخلاها الأميركيون في شمال شرق البلاد، وبالتالي، فإن الروس تحديداً هم من يملك اليد العليا في سورية اليوم.
ولكن هواجس الحلفاء الأميركيين ليست محصورة في أرض الشام، بل إننا نرى الإسرائيليين
يحجّون مراراً وتكراراً إلى موسكو في السنوات الأخيرة، كما يفعل ذلك عرب كثيرون أيضاً، وتحديدا من الخليج العربي. ويكفي للتدليل على ذلك الزيارتان اللتان قام بهما بوتين إلى السعودية والإمارات خلال الأسبوعين الماضيين. وقبل ذلك، كانت أعلنت كل من موسكو وطهران نيتهما إجراء مناورات عسكرية بحرية مشتركة في المياه الشمالية في المحيط الهندي، بما في ذلك منطقة الخليج ومضيق هرمز، وهو الفضاء الذي كان حكراً، إلى زمن قريب، على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. ينسحب الأمر نفسه على القارة الأفريقية، حيث استضافت روسيا، قبل أيام في سوتشي، قمة "روسيا – أفريقيا"، وقد أعلنت استعدادها للوساطة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة، وهو ما يؤكد دورها المتنامي كأحد أهم اللاعبين في المنطقة. بمعنى آخر، تحاول روسيا، عملياً، وراثة الدور الأميركي المتراجع في المنطقة، وهو ما انتبه إليه الحلفاء الأميركيون هنا، ومن ثمَّ تراهم يسارعون إلى استرضاء الروس، لعلهم يجدون عندهم ما يبدو لهم أنهم بدأوا يفقدونه عند الأميركيين.
لا يعني ما سبق أن روسيا أو الصين ستكونان قادرتين فعلاً على وراثة الولايات المتحدة في الإقليم قريباً، أو في كثير من بؤر العالم الحيوية، وإن كان ذلك غير مستحيل، ولكنه يؤشر إلى علامات إعياء أميركية، وهي بالمناسبة بدأت تظهر في النصف الثاني من إدارة جورج بوش الابن، تحت وطأة الحروب المتواصلة وغير المُعَرَّفَةِ وغير المحدّدة (الحرب على الإرهاب مثلا)، وجاءت إدارة باراك أوباما ورسّخته (أي الإعياء)، وصولا إلى ترامب الذي حوّلها إلى فوضى. هل سنشهد صحوة أميركية من جديد تحت إدارة أخرى قادمة؟ ربما، ولكن، وبغض النظر عن المواقف الأميركية مستقبلاً، ثمّة حقيقة ثابتة لا ينبغي أن يتسلل إليها شك، أن وضع كل البيض في السلة الأميركية يندرج في سياق السفاهة الاستراتيجية، ومن لا يستطيع أن يحمي أمنه القومي بإمكاناته الذاتية يُقدم على الانتحار الذاتي.
صعّدت النقطة الأخيرة من منسوب نقاش آخر أوسع، يجري في الدوائر الأميركية، فعلى الرغم
التحذير الأخير هو بالضبط ما جرى في سورية بعد قرار ترامب، والانسحاب الفعلي الذي تبعه لعدد من القوات الأميركية العاملة في شمال شرق سورية، مع بقاء قواتٍ قليلةٍ هناك لحماية آبار النفط، وأخرى في قاعدة التنف، جنوبي البلاد، على الحدود السورية – العراقية ــ الأردنية، لمنع إيران من تحقيق تواصل جغرافي برّي بدءاً بحدودها، مروراً بالعراق وسورية، إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط. ويرى المعارضون لسياسة ترامب في المنطقة أنه قدّم هدية ثمينة لكل من روسيا وإيران ونظام بشار الأسد، فضلا عن تركيا، جرّاء قراره الانسحاب من سورية. كما يشيرون إلى أن ثقة الحلفاء قد اهتزت بالولايات المتحدة وإمكانية الاعتماد عليها، ولعل هذا ما دفع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى أن يزور إسرائيل مباشرة بعد توقيع الاتفاق مع أنقرة لتهدئة مخاوفها من أن الولايات المتحدة لن تتركها مكشوفةً أمام التهديد الإيراني في سورية.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تجادل بأن هذا لا يعتبر تخلياً عن حلفائها، وأن واشنطن لم تقدّم يوماً تعهداً بالدفاع عن الأكراد "إلى الأبد"، إلا أن الحقيقة أن الولايات المتحدة، ومنذ سنوات، تثير هواجس حلفائها، بما في ذلك الأوروبيون، من أنه لا يمكن الركون إلى مظلتها الحمائية، وهي فعلاً تحدث فراغات، في غير مكان، تتمدّد فيه قوى منافسة، وتحديدا روسيا، ثمَّ الصين. ولعل في توجه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد توقيعه الاتفاق مع واشنطن، إلى سوتشي للاجتماع بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتوصّله إلى تفاهمات جديدة معه في سورية يؤكد هذا المعطى. الحقيقة التي لا مراء فيها هنا أن روسيا سيطرت مباشرة على الأماكن التي أخلاها الأميركيون في شمال شرق البلاد، وبالتالي، فإن الروس تحديداً هم من يملك اليد العليا في سورية اليوم.
ولكن هواجس الحلفاء الأميركيين ليست محصورة في أرض الشام، بل إننا نرى الإسرائيليين
لا يعني ما سبق أن روسيا أو الصين ستكونان قادرتين فعلاً على وراثة الولايات المتحدة في الإقليم قريباً، أو في كثير من بؤر العالم الحيوية، وإن كان ذلك غير مستحيل، ولكنه يؤشر إلى علامات إعياء أميركية، وهي بالمناسبة بدأت تظهر في النصف الثاني من إدارة جورج بوش الابن، تحت وطأة الحروب المتواصلة وغير المُعَرَّفَةِ وغير المحدّدة (الحرب على الإرهاب مثلا)، وجاءت إدارة باراك أوباما ورسّخته (أي الإعياء)، وصولا إلى ترامب الذي حوّلها إلى فوضى. هل سنشهد صحوة أميركية من جديد تحت إدارة أخرى قادمة؟ ربما، ولكن، وبغض النظر عن المواقف الأميركية مستقبلاً، ثمّة حقيقة ثابتة لا ينبغي أن يتسلل إليها شك، أن وضع كل البيض في السلة الأميركية يندرج في سياق السفاهة الاستراتيجية، ومن لا يستطيع أن يحمي أمنه القومي بإمكاناته الذاتية يُقدم على الانتحار الذاتي.