قيل من قبل، بين نهار وليل، أو ليلة وضحاها. أما اليوم، فلن يستغرق الأمر سوى سويعات قليلة، أو دقائق؛ لتصير نجماً، وأنت متكئٌ في صدرَ غرفة الجلوس، متربّعٌ في ثوب النوم على حافة السرير، أو واقفٌ أمام مرآة الحمّام، ما دام هاتفك المحمول موصولا، والقريحة آتية، وأناك تفيضُ أنا.
قد يكفي هذا أيّاً منا، كان من كان وأينما كان، ليصير فنّاناً فيروسياً viral artist في عصر لم يُشهد له مثيلٌ من جهة الإمكانية الآنّية في الوصل والاتصال، والقدرة اللحظية على النشر والانتشار. إنها قرعة الإنترنت، وتقليعة العزف والغناء من على إحدى منصّاته، فإما أن تُخطئ فتغرق في عباب عديد ما يُتداول، أو تُصيبَ ليدفعُ بك الموج إلى عُلا المجد والشهرة.
إنه زمن التاريخ المُفرط hyper history والواقع المَزيد augmented reality. زمنٌ غيّر الزمن، وعلى حين غرّة، كسر كل قواعد اللعب. فترك الناس في حيرة من فهم ما حدث واستُحدث، وإدراك ما جدّ واستجد. لذا، تكثر الظواهر وتكثر معها الآراء في تفسيرها، فيما تغيب النواظم في تسييرها وتدبيرها.
فما من أُسس راسخة جليّة تكفل لصاحب الفيديو، هذا أو ذاك، جني "اللايكات"، وحصد المحبّات والتعليقات، وتلك صارت عُملات في سوق السوشيال ميديا، حيث رصيد الفنان الفيروسي يشير إليه، بحجم المتابعة لمنشوره، فيما الاكتتاب على صفحته، دليلٌ على عرض وسعة جمهوره. عامل الصدفة هنا حاسم، لا تقدّم القيمة الفنيّة عليه كثيراً ولا تؤخر.
بيد أنه، ومن خلف ستار الصدف، بعض المحرضات على الحضور، والموّجهات للاستحسان والقبول. "صانع الذائقة" مثلاً taste maker، هو ذلك المُتابَع المشهور، صاحب الجمهور، الذي إن هو بثّ الفيديو المغمور، وشاركه على صفحته، أمّن لصاحبه مئات آلاف من اللايكات، في كبسة زرّ واحدة.
هناك أخبارٌ عن شركات مُتخصصة في الخوارزميّات Algorithm، تبحث في مسببات الانتشار على الإنترنت، من حيث التوقيت وقابلية التأثّر والتأثير. تقوم مقابل المال، مقام المسوّق لحساب الفنان الفيروسي أو المترشح للمنصب السياسي، فتزيد له من حضوره وحظوظ انتشاره. صار لها وللعقول التي تُديرها، باعٌ ويدٌ في تحريك الرأي العام والذائقة الشعبية. ليس في الفن فقط أو في الأغنية، وإنما في تقرير مصير الشعوب ومسير الديمقراطية.
في ما مضى، مرّ العمل الفني، سمعياً كان أم بصرياً، أو كليهما، ضمن قنوات تقييم وتقويم، قبل أن يُعرض على الناس. فلكي تُسجّل أغنية، لا بد لها من جهة منتجة، تستثمر في نفقات الإعداد والإخراج استناداً إلى آراء جماعة من الخبراء والتقنيين، سواءً في الموسيقى والتسجيل أو في التسويق. ربما لم يكن هاجسهم فقط القيمة الفنية، وإنما، بالطبع، الربحية. بيد أن لتلك المجاري فضلٌ في مأسسة التجربة الفنية. كفضل محرر الكتاب وناشره، على مؤلفه وكاتبه.
أما الفن الفيروسي فمُرتجلٌ، لا يخضع سوى لنظر صاحبه. قوته تكمن في آنيته وعفويته، لكن بهما أيضاً نقطة ضعفه، ولهما تُنسب ضحالته، ومن عُجالتِه تأتي ركاكته. يُلقى به على الخط الساخن online، حيث الجمهور هو الحَكم، والحُكم يأتي من الإثارة، والإعجاب من الاستثارة. قد أسهم الإنترنت في دمقرطة الذوق، لكن في نفس الوقت، أقال المنُتِج والناقد والناشر، هؤلاء يرتقون بالذوق العام، ويرُشدون الفنان، أو مشروع الفنان، كي لا تحجُب عنه النزعة الشخصية الرؤية الموضوعية.
اقــرأ أيضاً
عند فعل الوقوف وحيداً أمام كاميرا المحمول، وتسجيل الصوت بلاقط داخلي أو خارجي موصول، تكون الأنا هي السيدة، والمسيّرة. تلك البيئة النرجسية المغلقة، قد تُغّلب العاطفة والغريزة، على المحتوى والحرفيّة، فإنْ أحدث المنتوج أثراً فيروسياً كما هو مأمول، يكون ذلك على الأغلب، لمجرّد استمالة المتلقّي شعورياً، فلا تكتمل بذلك، شروط العمل الفني، ألا وهي مثلّث الصنعة الفنية، مع الشحنة العاطفية والحمولة الفكرية.
"اللايك" like، في عالم السوشيال الميديا الموازي، إضافة لكونه عُملةً، هو أيضاً لغةٌ سيكولوجية وسوسيولوجية، لها مضامين رمزية وتحتية، تتعلق بالإسقاط وبالتماهي identification؛ فـ "لايك" أحدهم لأحد الفيديوهات، ومشاركته له أو التعليق عليه، غالباً ما يكون بمثابة إعلانٍ عن إعجاب بصاحب الفيديو، وانجذاب له، وتعاطف معه، أو تماهٍ بشخصه أو بما يقوم به ويَفعله، أو حتى استساغة لمظهره وملامحه. وعليه، ليس بالضرورة أن يكون استحساناً لأداء الأغنيّة المسجلة، أو لجودة ومضمون الفيديو المنشور.
تظل مع ذلك، شخصية الفنان وحضوره من مكونّات أدائه وأعماله الرئيسة. فليس هناك من وجود منفصل ومنعزل للفن عن ذات الفنان. فكلٌّ من هيئته وشخصيته، وخبرته وخلفيته، مزاجه ومعاشه، حاضرٌ في صميم صناعته. بيد أن غياب المعايير، وتجاوز الناقد والخبير، والاحتكام فقط للجماهير، يغلّب الشخصي على الموضوعي، والعاطفي على الوجداني، والعفوي على المنهجي، والسطحي على الحقيقي والجوهري.
إن كان الحظ حليف الفنان الفيروسي، وعبرت به عدوى اللايكات، من منصة الإنترنت إلى حياة المسرح ومسرح الحياة، حينها سيُواجَه بالتحديّات التي تقابل الفنان الحقيقي، فأولى خطى المسيرة المهنية، تبدأ على أرض الواقع العادي لا الموازي، في الاستوديو وعلى الخشبة، وليس في غرفة النوم وعلى الأريكة أو من خلف كاميرا محمولة بيد، أو منصوبة على منضدة. سيُغني أو يعزف أمام جمهور من لحم ودم، لا تفصل بينه وبينه الشاشة، وإنما الهواء. حينها، لن تشتري له اللايكات الكثير، وإنما، القيمة الفنية والعمل الجاد والحثيث، ما يكفل له طول البقاء وحسن المتابعة.
إنه زمن التاريخ المُفرط hyper history والواقع المَزيد augmented reality. زمنٌ غيّر الزمن، وعلى حين غرّة، كسر كل قواعد اللعب. فترك الناس في حيرة من فهم ما حدث واستُحدث، وإدراك ما جدّ واستجد. لذا، تكثر الظواهر وتكثر معها الآراء في تفسيرها، فيما تغيب النواظم في تسييرها وتدبيرها.
فما من أُسس راسخة جليّة تكفل لصاحب الفيديو، هذا أو ذاك، جني "اللايكات"، وحصد المحبّات والتعليقات، وتلك صارت عُملات في سوق السوشيال ميديا، حيث رصيد الفنان الفيروسي يشير إليه، بحجم المتابعة لمنشوره، فيما الاكتتاب على صفحته، دليلٌ على عرض وسعة جمهوره. عامل الصدفة هنا حاسم، لا تقدّم القيمة الفنيّة عليه كثيراً ولا تؤخر.
بيد أنه، ومن خلف ستار الصدف، بعض المحرضات على الحضور، والموّجهات للاستحسان والقبول. "صانع الذائقة" مثلاً taste maker، هو ذلك المُتابَع المشهور، صاحب الجمهور، الذي إن هو بثّ الفيديو المغمور، وشاركه على صفحته، أمّن لصاحبه مئات آلاف من اللايكات، في كبسة زرّ واحدة.
هناك أخبارٌ عن شركات مُتخصصة في الخوارزميّات Algorithm، تبحث في مسببات الانتشار على الإنترنت، من حيث التوقيت وقابلية التأثّر والتأثير. تقوم مقابل المال، مقام المسوّق لحساب الفنان الفيروسي أو المترشح للمنصب السياسي، فتزيد له من حضوره وحظوظ انتشاره. صار لها وللعقول التي تُديرها، باعٌ ويدٌ في تحريك الرأي العام والذائقة الشعبية. ليس في الفن فقط أو في الأغنية، وإنما في تقرير مصير الشعوب ومسير الديمقراطية.
في ما مضى، مرّ العمل الفني، سمعياً كان أم بصرياً، أو كليهما، ضمن قنوات تقييم وتقويم، قبل أن يُعرض على الناس. فلكي تُسجّل أغنية، لا بد لها من جهة منتجة، تستثمر في نفقات الإعداد والإخراج استناداً إلى آراء جماعة من الخبراء والتقنيين، سواءً في الموسيقى والتسجيل أو في التسويق. ربما لم يكن هاجسهم فقط القيمة الفنية، وإنما، بالطبع، الربحية. بيد أن لتلك المجاري فضلٌ في مأسسة التجربة الفنية. كفضل محرر الكتاب وناشره، على مؤلفه وكاتبه.
أما الفن الفيروسي فمُرتجلٌ، لا يخضع سوى لنظر صاحبه. قوته تكمن في آنيته وعفويته، لكن بهما أيضاً نقطة ضعفه، ولهما تُنسب ضحالته، ومن عُجالتِه تأتي ركاكته. يُلقى به على الخط الساخن online، حيث الجمهور هو الحَكم، والحُكم يأتي من الإثارة، والإعجاب من الاستثارة. قد أسهم الإنترنت في دمقرطة الذوق، لكن في نفس الوقت، أقال المنُتِج والناقد والناشر، هؤلاء يرتقون بالذوق العام، ويرُشدون الفنان، أو مشروع الفنان، كي لا تحجُب عنه النزعة الشخصية الرؤية الموضوعية.
عند فعل الوقوف وحيداً أمام كاميرا المحمول، وتسجيل الصوت بلاقط داخلي أو خارجي موصول، تكون الأنا هي السيدة، والمسيّرة. تلك البيئة النرجسية المغلقة، قد تُغّلب العاطفة والغريزة، على المحتوى والحرفيّة، فإنْ أحدث المنتوج أثراً فيروسياً كما هو مأمول، يكون ذلك على الأغلب، لمجرّد استمالة المتلقّي شعورياً، فلا تكتمل بذلك، شروط العمل الفني، ألا وهي مثلّث الصنعة الفنية، مع الشحنة العاطفية والحمولة الفكرية.
"اللايك" like، في عالم السوشيال الميديا الموازي، إضافة لكونه عُملةً، هو أيضاً لغةٌ سيكولوجية وسوسيولوجية، لها مضامين رمزية وتحتية، تتعلق بالإسقاط وبالتماهي identification؛ فـ "لايك" أحدهم لأحد الفيديوهات، ومشاركته له أو التعليق عليه، غالباً ما يكون بمثابة إعلانٍ عن إعجاب بصاحب الفيديو، وانجذاب له، وتعاطف معه، أو تماهٍ بشخصه أو بما يقوم به ويَفعله، أو حتى استساغة لمظهره وملامحه. وعليه، ليس بالضرورة أن يكون استحساناً لأداء الأغنيّة المسجلة، أو لجودة ومضمون الفيديو المنشور.
تظل مع ذلك، شخصية الفنان وحضوره من مكونّات أدائه وأعماله الرئيسة. فليس هناك من وجود منفصل ومنعزل للفن عن ذات الفنان. فكلٌّ من هيئته وشخصيته، وخبرته وخلفيته، مزاجه ومعاشه، حاضرٌ في صميم صناعته. بيد أن غياب المعايير، وتجاوز الناقد والخبير، والاحتكام فقط للجماهير، يغلّب الشخصي على الموضوعي، والعاطفي على الوجداني، والعفوي على المنهجي، والسطحي على الحقيقي والجوهري.
إن كان الحظ حليف الفنان الفيروسي، وعبرت به عدوى اللايكات، من منصة الإنترنت إلى حياة المسرح ومسرح الحياة، حينها سيُواجَه بالتحديّات التي تقابل الفنان الحقيقي، فأولى خطى المسيرة المهنية، تبدأ على أرض الواقع العادي لا الموازي، في الاستوديو وعلى الخشبة، وليس في غرفة النوم وعلى الأريكة أو من خلف كاميرا محمولة بيد، أو منصوبة على منضدة. سيُغني أو يعزف أمام جمهور من لحم ودم، لا تفصل بينه وبينه الشاشة، وإنما الهواء. حينها، لن تشتري له اللايكات الكثير، وإنما، القيمة الفنية والعمل الجاد والحثيث، ما يكفل له طول البقاء وحسن المتابعة.