الفساد وإعاقة التغيير في الجزائر

11 مارس 2019
المظاهرات وضعت صناع القرار أمام حتمية التغيير الإيجابي(العربي الجديد)
+ الخط -
خرجت العديد من المظاهرات السلمية في أنحاء الجزائر خلال الأيام الماضية منادية بضرورة التغيير ومُعبِّرة عن رفض العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأهمّ ما تميَّزت به هذه المسيرات أنّها كانت في قمة التحضُّر والرقي حيث عبَّر الشعب عن مطالبه بدون اللجوء إلى التخريب وأعمال العنف.

كما تعكس المسيرات مدى وعي الشعب ومدى حاجته للتغيير من دون تخليف أية خسائر مادية أو بشرية، والمطالبة بالتغيير جاءت نتيجة لمستوى الفساد الذي لم يعد يُحتمل والذي حرم الطبقات الفقيرة والمتوسطة العديد من الفرص للتنعُّم بالعيش الكريم. فقد لاحظ الجزائريون المكاسب الغائبة والخسائر الحاضرة للعديد من السياسات الحكومية، لذلك أرادوا ومن خلال تلك المسيرات إنزال التغيير من ضبابية المشهد السياسي إلى حتمية التنفيذ الواقعي.

مشروع لاجتثاث الفساد

إذا أمعنا النظر فيما يحدث في العديد من دول العالم نرى أن دولا كثيرة لديها مشروع وطني، إيران مثلا لها مشروع وتركيا أيضا، لذلك فقد آن الأوان ليصبح للجزائر مشروع يهدف إلى اجتثاث الفساد من جذوره، لأنه السبب وراء تعطُّل باقي المشاريع السياسية والاقتصادية التي ظلَّت تتأرجح ما بين فترات الطموح واليأس.

وتُبيِّن المظاهرات الأخيرة في الجزائر أنّ الشعب يرفض البقاء رهينة لسنوات المراهقة السياسية لأنّه قد تخلص من السطحية في الثقافة السياسية، وهو يريد الآن أن يُجسِّد حلم التغيير على أرض الواقع. كما بيَّن الشعب أنّ تلك المسيرات كانت في نفس الوقت فضاء جدّ مهمّ للتنفيس عن رغباتهم المكبوتة ونتاج تلاقح الوعي السياسي والإنساني للمواطن الذي أصبح مُصِرّا على رفض استمرار استغلاله سياسيا.

وكأنّ الشعب الجزائري عاد إلى الوراء وقام بجرد ممارسات الفساد وقرَّر أن يخرج للشارع ويعبِّر عن رغبته بإنهاء هذه الحقبة واستحضار رياح التغيير، وأيّ شخص آخر سوَّلت له نفسه التشكيك في مدى وعي الشعب اصطدم بحقيقة أنّه كان يغرِّد خارج السرب. 

وحلم التغيير ومكافحة الفساد ما هو إلا جنين الواقع الجديد الذي فرضته تلك المسيرات والتي ستأخذ الجزائر نحو مرحلة أخرى يتسنَّى فيها للمواطن البسيط القليل الحيلة أن يستفيد من تكافؤ الفرص في ظلّ غياب الفساد، وينعم بتعليم أفضل وخدمات صحية أرقى، ويتمكَّن من اقتناء المواد الاستهلاكية بأسعار معقولة.

وقد استطاع المواطن البسيط الذي خرج للمظاهرات منادياً بالتغيير أن يتفوَّق على اتفاقيات الفساد التي لم تحرِّك ساكناً، لأنّها ولدت مشلولة ولم تُمنح الفيتامينات اللازمة لتمشي على قدميها وتحارب الفساد من أعلى الهرم لأسفله.

ضعف القدرة الشرائية وحَّد المواطنين

عرفت القدرة الشرائية في الجزائر تدهوراً ملحوظاً خلال السنوات الماضية، الأمر الذي دفع بالعاطلين عن العمل " البطالين" للاحتجاج أمام الوزارات المعنية بالتشغيل، وبالعمال للإضراب، مُطالبين برفع أجورهم التي لم تتحسَّن منذ عقد من الزمن في الوقت الذي لم تتمكَّن فيه الحكومة من إطفاء لهيب الأسعار.

ومن الخطير جدّا أن يتَّحد تدهور القدرة الشرائية مع تفاقم مستويات الفساد التي سمحت باتساع الفجوة في توزيع الدخل بين أصحاب القرار والثروات الطائلة والمعوزين، فمن شأن هذا الاتحاد أن يُولِّد أخطر الثورات.

وقد تُوِّجت مختلف الإضرابات التي تمّت خلال الفترة القصيرة السابقة بهذه المسيرات التي كانت سلمية إلى أقصى حدّ ممكن والتي أعطت للمواطنين الصوت والميكروفون ومنحت بالمقابل للنخب السياسية الآذان الصاغية للإنصات للمواطنين.

لقد استطاعت المظاهرات الأخيرة ضد العهدة الخامسة لبوتفليقة أن تُقلِّص الفجوة بين المواطنين وصنّاع القرار، وأن تبيِّن للحكومة مدى ضرورة محاربة الفاسدين واتّخاذ التدابير الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها التصدّي لغلاء المعيشة وتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين. فالمسيرة السلمية ماهي إلاّ طريقة يعبِّر من خلالها المواطن البسيط عن حاجته للتغيير الذي سيوفِّر له ظروفاً معيشية أفضل وفرصاً أكثر عدلاً.

تحسين معيشة المواطن والوضع الاقتصادي

لا يخفى على أحد أنّ الوضع الاقتصادي للجزائر صعب نوعا ما، لا سيَّما في ظلّ الأسعار الحالية للنفط واستنزاف احتياطي النقد الأجنبي الذي خسر قرابة 15 مليار دولار سنة 2018، علما أنّ وتيرة تآكل الاحتياطي متسارعة جدّا.

وبالمقابل نجد أن عملية طبع النقود لا تتوقَّف، وكل هذا يساهم في ادّخار تحديات صعبة للغاية للحكومة القادمة، ولكن محاربة الفساد ستُحدث فرقاً كبيراً في هذه المعادلة، فبالرغم من انعدام الإحصائيات والبيانات عن حجم الأموال التي ينهبها الفاسدون من أموال الدولة، إلاّ أنّ الفرق بين عائدات النفط وحجم المشاريع الحكومية ونوعيتها يجعل الحقيقة واضحة للعيان.

بمعنى آخر لو قامت الحكومة القادمة بضرب الفساد بيد من حديد من أعلى الهرم إلى أسفله سنلمس فعالية السياسات التي سيتمّ اتِّخاذها لأنّه وببساطة الأموال التي كانت تذهب سابقاً لجيوب الفاسدين ستعرف طريقاً جديداً نحو جيوب الفئات الفقيرة والمُهمَّشة، وستكون مناقصات المشاريع الحكومية من نصيب الأكفأ في إنجازها.

ومن الخطير جدّا أن نجد أنّ هناك أصحاب مصالح يعيشون ويقتاتون على الفساد، والأخطر من ذلك أنّ لهم تأثيرا على القرار السياسي، وجدية الحكومة القادمة في مكافحة الفساد هي مربط الفرس لتغيير عقليات ذلك النمط من أصحاب المصالح. 

ومسيرات يوم 22 فبراير وما بعدها من مظاهرات غيَّرت الصورة أمام صنّاع القرار ووضعتهم أمام حتمية التغيير الإيجابي الذي يخدم الأهداف التي ينشدها كل مواطن. لذلك يمكن القول إنّه وبالرغم من الوضع الاقتصادي الراهن للجزائر يمكن للتغيير أن يُحسِّن الأوضاع المعيشية لشرائح المجتمع كافة، خصوصاً ذوي الدخل المحدود والمتدني، ولكن فقط من خلال تحصين الاقتصاد ضدّ الفساد ومحاسبة الفاسدين وكل معتدٍ تُسوِّل له نفسه التطاول على المال العام.

خلاصة القول إنّ مسيرات 22 فبراير وما تبعها من مظاهرات لن تكون الأخيرة من نوعها، بل هي أولى صفحات الكتاب الذي قرَّر فيه المواطنون البدء بعملية التغيير التي ستمنحهم ظروفاً معيشية أحسن وفرصاً أفضل، لذلك لا بد من تلبية مطالب الشعب بالتغيير حتى لا تأخذ الأمور منحى آخر ويحصل ما لا يحمد عقباه، فقد آن الأوان لإدارة ثروات البلاد من النفط والغاز بطريقة فعالة وشفافة وتسخيرها لخدمة التنمية الشاملة وتحقيق الرفاه والاستقرار الاجتماعي لأبناء الوطن وذلك من خلال محاربة كل أشكال الفساد التي لوَّثت كل مفاصل الدولة وحرمت المواطن البسيط من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
المساهمون