10 اغسطس 2017
الفرح في فلسطين عمل مقاومة
صالح عبد الجواد
كاتب وباحث فلسطيني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، شغل مناصب عميد كلية الحقوق والإدارة العامة والعلوم السياسية، ومدير مركز الأبحاث لجامعة بيرزيت، ورئيس دائرة التاريخ والعلوم السياسية.
برزت ظاهرة سلبية في المجتمع الفلسطيني أخيرا، حاولت قمع كل نشاط فرح أو بهجة، بحجة أن ذلك يتعارض مع فكرة المجتمع المقاوم. وتشتد الظاهرة كلما تصاعدت وتيرة النضال، كما هو الحال في ظل إضراب الأسرى في الأسابيع الماضية، حينما منعت مجموعات من الشبان بفظاظة أي مظاهر للفرح، وأغلقت المحلات التجارية أياما عديدة. والظاهرة خطيرة، خصوصا عندما تعتمد العنف والفوضى أداة للتطبيق، حيث تصبح أحد دوافع هجر الوطن الفلسطيني، وهو ما يريده الإسرائيليون، وما يخططون له. ويعالج كاتب هذه المقالة الظاهرة من خلال فهم خصوصية الحالة الفلسطينية المبتلاة بنوعٍ فريد من الاحتلال القاتل ببطء، حيث يصبح الفرح أحد أهم أشكال المقاومة في مواجهة أجواء الكآبة والحزن والغم والتعاسة.
الجدل بشأن الفرح والمرح والاحتفال في مجتمع مُحتل أمر قديم، خبَرته شعوب عديدة. وليس الفلسطينيون الذين يعيشون تحت نير الاحتلال منذ خمسين عاماً استثناءً يشذ عن القاعدة. ويشتد مثل هذا الجدل كلما تصاعدت حدة القهر والموت (كما الحال خلال الانتفاضتين، أو خلال الشهر الأخير المقترن بإضراب الأسرى).
وكثيرا ما تظهر أصواتٌ وكتاباتٌ تعيب على الناس "أن تفرح وترقص وتطرب"، في وقت يعاني فيه آخرون من حصار خانق ومميت. تحول الجدل، كما في بعض الحالات، من جدل ثقافي، كما يفترض أن يكون، إلى تراشق جارح الكلمات، يحاول فيه كل طرفٍ تسجيل نقاط في مرمى الطرف الآخر.
وليست سياسة "تقديس الغم والحزن" مقصورةً، كما يدّعي بعضهم، على طرفٍ سياسيٍّ دون الآخر، حيث هناك من يشير بأصابع الاتهام تجاه الحركة الإسلامية بمكوّناتها كافة، وفي
مقدمتها "حماس"، ففي الانتفاضة الأولى، كانت "القوى الضاربة" لمعظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية تمارس، بل وتفرض، حظراً أو تقشفاً على الفرح المُعلن والمُشهر طاول كل أنشطة المجتمع، كالأعراس والاحتفالات العائلية، من منطلق: كيف تفرح عائلةٌ ما ولجيران لها أسير أو شهيد؟ وفي حينه اتسعت "حدود المياه الإقليمية" للجيرة، لتشمل كل القرية، أو مناطق واسعة من المدن؛ ووصل الأمر إلى حد منع العائلات من الشواء في فناء بيتها الخلفي "لأن رائحة الشواء ستصل إلى أنوف من لا يستطيعون شراء اللحم". وفي أثناء الانتفاضة الثانية، فُرضت القيود على الفرح علناً، وحتى بقوة السلاح، من أفراد وجماعات محسوبة على فصيل رئيسي. صحيح أنها جماعاتٌ صغيرةٌ وهامشيةٌ، ولا تعبر عن موقف التنظيم الأم، ولكنها مؤثرة في ظل أجواء الفلتان الأمني والسياسي (هجمات بالسلاح في رام الله على حفلات فندق غراند بارك ومطعم دارنا).
ألقت هذه الممارسات بقيودها الثقيلة على مظاهر الفرح، فتحولت تدريجياً بعض الاحتفالات والأعراس إلى شيء أشبه بالمأتم، فنسينا تقاليدنا، حتى الريفية منها، والتي كانت تسمح بنوعٍ من "انفجار" الفرح، وبدرجة محسوبة من الاختلاط البريء والصحي (في السحجات والزفة مثلا).
وأسباب ظاهرة منع الفرح ثلاثة، أولها أن اتساع الفوارق الطبقية بعد اتفاقية أوسلو، وانتشار البطالة في صفوف الشباب الفلسطينيين، وضعف العلاقة بالثقافة والفن، ولّدا حقداً طبقياً، خصوصا بين أبناء المخيمات الفقيرة على المدينة عموماً، وعلى الشرائح الغنية خصوصا، إذ برزت فئاتٌ لا تستطيع، وهي التي تعيش في ظروف البطالة والحرمان وقيود السجن الكبير، أن تفهم وتتسامح مع فرح الآخرين وسعادتهم واحتفالهم. السبب الثاني أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت صعود حركة حماس وتراجع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى غير المنظمة (في بداياتها) التي كان مشروعها الثقافي يسير مع مشروعها المقاوم، لم يكن لدى "حماس" مشروع ثقافي وترفيهي (يكفي أن تجلس أمام تلفزيون الأقصى عدة ساعات لتكتشف ذلك).
ومن الواضح أنه لا توجد حتى الآن رؤية لهذه المعادلة، وكل ما هنالك مجرد اجتهاداتٍ معظمها مستمدٌّ للأسف من صورةٍ نمطيةٍ خاطئة عن الإسلام، تصوّره دين تقشف وعسر، وليس دين يسر، دينا لا يكرس إلا ثقافة الزهد والموت والاستشهاد. وهي صورةٌ تلغي وتتناسى ما أبدعته الحضارة الإسلامية العربية من ثقافة وفن، في مجالات شتى، كالموسيقى والأدب والغناء والمعمار. ولا يقل السبب الثالث عن الأول والثاني أهمية، فهو سياسة الاحتلال الصهيوني لصوغ الحالة النفسية الجمعية للفلسطينيين في سياق سياسات "التدمير الشامل للمجتمع الفلسطيني"، حيث تدفع هذه السياسات، بشكل مخطط ومدروس، المجتمع، جماعاتٍ وأفراداً، نحو أجواء يعمّها الحزن والكآبة والهم والقلق والضغط، لتسكن جوانح الفلسطيني، وتعشّش حصاراً إرهابياً في وجدان الناس.
ضمن هذه السياسة، تُمارَس ضغوط نفسية يومية ومستمرة وبطيئة، تهدف إلى حرمان الفلسطيني الذي يعيش أقسى الظروف من القدرة، بل والرغبة أساساً في الفرح، وتحاول تحويل حياته جحيماً، لا فرار منه إلا بالرحيل عن هذه البلاد. فإضافةً إلى سياسة إضعاف الاقتصاد، والتشديد على حرية التنقل وعرقلة المرور والسفر بين المناطق (حتى في الأعياد الدينية)، فإن كل وسائل الترويح عن النفس (حتى التي يمكن أن توفر دخلاً للمرافق السياحية الإسرائيلية) تخضع للقيود. فكل شيء مسخّر لمنع الفلسطينيين ليس من حق تقرير المصير والتحرّر من الاحتلال فحسب، بل ومنعهم من أن يعيشوا حياة طبيعية كباقي بني البشر. وكما قال أحد الشبان للمخرج محمد البكري في فيلمه "جنين": "عمري 43 عاماً، ولم أر يوماً سعيداً في حياتي".
ضمن هذا السياق، وفي ظل احتلال مستمر منذ خمسين عاماً، يحاول بكل الطرق تحويل حياة الفلسطيني اليومية إلى جحيم من الحزن والتعاسة والبكاء، يصبح الفرح عمل مقاومةٍ وجلّدٍ وصمود.
الجدل بشأن الفرح والمرح والاحتفال في مجتمع مُحتل أمر قديم، خبَرته شعوب عديدة. وليس الفلسطينيون الذين يعيشون تحت نير الاحتلال منذ خمسين عاماً استثناءً يشذ عن القاعدة. ويشتد مثل هذا الجدل كلما تصاعدت حدة القهر والموت (كما الحال خلال الانتفاضتين، أو خلال الشهر الأخير المقترن بإضراب الأسرى).
وكثيرا ما تظهر أصواتٌ وكتاباتٌ تعيب على الناس "أن تفرح وترقص وتطرب"، في وقت يعاني فيه آخرون من حصار خانق ومميت. تحول الجدل، كما في بعض الحالات، من جدل ثقافي، كما يفترض أن يكون، إلى تراشق جارح الكلمات، يحاول فيه كل طرفٍ تسجيل نقاط في مرمى الطرف الآخر.
وليست سياسة "تقديس الغم والحزن" مقصورةً، كما يدّعي بعضهم، على طرفٍ سياسيٍّ دون الآخر، حيث هناك من يشير بأصابع الاتهام تجاه الحركة الإسلامية بمكوّناتها كافة، وفي
ألقت هذه الممارسات بقيودها الثقيلة على مظاهر الفرح، فتحولت تدريجياً بعض الاحتفالات والأعراس إلى شيء أشبه بالمأتم، فنسينا تقاليدنا، حتى الريفية منها، والتي كانت تسمح بنوعٍ من "انفجار" الفرح، وبدرجة محسوبة من الاختلاط البريء والصحي (في السحجات والزفة مثلا).
وأسباب ظاهرة منع الفرح ثلاثة، أولها أن اتساع الفوارق الطبقية بعد اتفاقية أوسلو، وانتشار البطالة في صفوف الشباب الفلسطينيين، وضعف العلاقة بالثقافة والفن، ولّدا حقداً طبقياً، خصوصا بين أبناء المخيمات الفقيرة على المدينة عموماً، وعلى الشرائح الغنية خصوصا، إذ برزت فئاتٌ لا تستطيع، وهي التي تعيش في ظروف البطالة والحرمان وقيود السجن الكبير، أن تفهم وتتسامح مع فرح الآخرين وسعادتهم واحتفالهم. السبب الثاني أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت صعود حركة حماس وتراجع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى غير المنظمة (في بداياتها) التي كان مشروعها الثقافي يسير مع مشروعها المقاوم، لم يكن لدى "حماس" مشروع ثقافي وترفيهي (يكفي أن تجلس أمام تلفزيون الأقصى عدة ساعات لتكتشف ذلك).
ضمن هذه السياسة، تُمارَس ضغوط نفسية يومية ومستمرة وبطيئة، تهدف إلى حرمان الفلسطيني الذي يعيش أقسى الظروف من القدرة، بل والرغبة أساساً في الفرح، وتحاول تحويل حياته جحيماً، لا فرار منه إلا بالرحيل عن هذه البلاد. فإضافةً إلى سياسة إضعاف الاقتصاد، والتشديد على حرية التنقل وعرقلة المرور والسفر بين المناطق (حتى في الأعياد الدينية)، فإن كل وسائل الترويح عن النفس (حتى التي يمكن أن توفر دخلاً للمرافق السياحية الإسرائيلية) تخضع للقيود. فكل شيء مسخّر لمنع الفلسطينيين ليس من حق تقرير المصير والتحرّر من الاحتلال فحسب، بل ومنعهم من أن يعيشوا حياة طبيعية كباقي بني البشر. وكما قال أحد الشبان للمخرج محمد البكري في فيلمه "جنين": "عمري 43 عاماً، ولم أر يوماً سعيداً في حياتي".
ضمن هذا السياق، وفي ظل احتلال مستمر منذ خمسين عاماً، يحاول بكل الطرق تحويل حياة الفلسطيني اليومية إلى جحيم من الحزن والتعاسة والبكاء، يصبح الفرح عمل مقاومةٍ وجلّدٍ وصمود.
صالح عبد الجواد
كاتب وباحث فلسطيني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، شغل مناصب عميد كلية الحقوق والإدارة العامة والعلوم السياسية، ومدير مركز الأبحاث لجامعة بيرزيت، ورئيس دائرة التاريخ والعلوم السياسية.
صالح عبد الجواد